:: الفصل الثاني عشر ::
بدأ تومي يحس كأنما كرة نازية تسبح في عينيه ، بعد أن كان قد فقد الوعي مدة لم يستطع حسبانها، وتجمع الألم مجسما في مركز تلك الكرة ، وأخذت تسبح ببطء، ثم أحس فجأة أن نواة ذلك الألم هو رأسه المحطم..
وأخذ يستفيق شيئا فشيئا ويعي بعض ما هو فيه فأدرك ان اطرافه قد تثلجت وأنه جائع ، وانه غير قادر على تحريك شفتيه ..
ان رأسه ملقى على أرض .. أرض جامدة .. أقرب الاشياء الى صخر صلد . . وبدأت ذاكرته تعود إليه شيئا فشيئا.. فتذكر هايدوك.. وجهاز اللاسلكي .. والساقي الألماني ودخوله من أبواب سان سوسي .. ثم ما حدث بعد ذلك ..
وعاد يقول لنفسه .. هايدوك .. لقد عاد هايدوك الى استراحة المهربين أمامي وأغلق الباب خلفه .. ترى كيف رتب الامور بحيث يسبقه الى سان سوسي، وينتظره هناك.. ؟ ان ذلك أمر مستحيل.. فلم يره في الطريق .. اذن .. لا بد أن يكون الساقي .. ولكن لا .. لقد رآه ينظم المائدة استعدادا لإفطار سيدة في صباح اليوم التالي .. وعلى كل .. فان ذلك لا أهمية له .. انما المهم ان يعلم أين هو الآن ؟ .. كانت عيناه قد اعتادتا الظلام فرأى بصيصا من نور ينبعث من نافذة صغيرة في أعلى المكان الذي كان فيه ، وأدرك انه ملقى في قبو و أن يديه قد قيدا وكذلك رجليه، وأنه قد كمم بإحكام بحيث لا يسمع له صوت .. وقد بدأ يحاول تحريك أطرافه دون جدوى .. وبعد لحظات سمع صوت باب يفتح ، في مكان ما خلفه .. ودخل رجل يحمل شمعة ثبتها على الارض ، ثم خرج وعاد من جديد يحمل في يديه صينية عليها دورق به ماء وكوب وبعض الخبز والجبن .. وقد عرف تومي فيه آبل دور الذي أخذ يتحسس الأربطة والكمامة ، ثم قال:
- سأنزع عنك هذه الكمامة لتاكل، وإذا بدر منك أي صوت سأعيد ربطها من جديد..
فحاول تومي أن يهز رأسه ايجابا ولكنه لم يستطع الا ان يفتح جفنيه ويقفلهما علامة على رضاه.. فأخذ آبل دور ينزع عنه الكمامة ببطء واستطاع تومي بعد عدة دقائق أن يحرك فيه وفمه، فأمسك آبل دور بالكوب وقربه من شفتيه فجرع قليلا بصعوبة في أول الأمر، ثم استطاع أن يزدرد الماء ازدرادا، فأحس أن حالته أصبحت خيرا مما كانت ..
ثم امسك الرجل بقطعتي الخبز والجبن و رفعهما الى فم تومي، واستمرت العملية بعض الوقت.. وشرب تومي أغلب ما كان في الدورق من الماء ، ثم سأل الرجل :
- وما القسم الثاني من برنامجكم؟
ولم يجب أبل دور، ولكنه مد يده إلى الكمامة.. فأسرع تومي قائلا :
- اريد أن أقابل الكوماندوز هايدوك ..
فهز آبل دور رأسه علامة عدم الموافقة، وأعاد ربط الكمامة ، وهكذا ترك تومي في ظلام دامس ، فنام..
واستيقظ على صوت الباب يفتح من جديد، ودخل في هذه المرة هايدوك و آبل دور معا ، وأزيلت الكمامة والأربطة .. وكان هايدوك ممسكا بمسدس اتوماتيكي في يده ..
ولم يكن تومي مطمئنا الى نجاح الخطة التي صمم عليها ، ولكنه قال :
- لست أفهم معنى لكل هذا يا هايدوك.. فقد اختطفت بدون أي مبرر..
- لا تقلق بالك.. المسألة أهون مما تظن..
- هل لمجرد كونك عضوا في ادارة المخابرات تظن نفسك تستطيع ان تفعل ما يحلو لك ؟
- لا .. لا .. يا ميدوز .. فأنت لم تقتنع بقصتي كما رأيت.. ولا حاجة لنا للاستمرار في هذه المهزلة..
ولكن تومي لم يظهر أية بادرة تبين فهمه لما يقول الكوماندور، تمنى في أعماق نفسه أن يون اصراره على التغابي، وسيلة تخرجه من المأزق الذي وقع فيه، فقال :
- من تظن نفسك ، بحق الشيطان، مهما كنت ، ومهما كانت القوات التي تخضع لك فانه لا حق لك ان تعاملني هذه المعاملة ...
فقال الآخر ببرود :
- انك تمثل دورك تمثيلا بارعا.. وليس يهمني اذا كنت من العاملين في ادارة المخابرات البريطانية أو انك هاو مفتون ..
- لا أدري عما تتحدث ..
- كفى يا ميدوز .. كفى أيها اللعين .. لم يبق لدي من الوقت ما يسمح لي بأن أعلم من أنت أو من أرسلك، وليس يهمني هذا الان .. فالوقت ضيق، ولن أترك لك الفرصة لتبلغ من تريد تبليغه، ما رأيت ..
- لا بد أن البوليس يبحث عني .. منذ تغيبت ..
- لقد حضر رجلان من رجال البوليس، في أول ليلة اختفيت فيها .. الى هنا .. وكلاهما كان صديقا لي .. وقد سألاني كل ما أعلم عن المستر ميدوز .. فأظهرت عجبي لاختفائه، واعتقد ان احدا منهما لا يتطرق ذهنه ان الرجل الذي يبحث عنه صريع تحت اقدامه ولا شك ان انك لم تنس خروجك من هذا المنزل سليما معافى ولا اظن ان هناك عقلية في العالم تشك في وجودك عندي ...
- انك لا تستطيع ان تبقيني هنا الى الابد ..
- بن أحتاج الى ذلك .. وقد أبقيك الى مساء الغد .. وهناك قارب صغير ينتظرك ببابي لتقوم فيه برحلة ، تسترد فيها صحتك.. الى الأبد ..
- اني أعجب، لم لم تصرعني في تلك الليلة؟
- ان الجثث تفوح رائحتها في مثل هذا المكان يا عزيزي ، ولذلك أجلنا ذلك الى حين وصول الزورق..
وفهم تومي انه على حق في ذلك، فعندما يصل الزورق يستطيعون قتله ونقل جثته ليقذفوا بها في اليم بعيدا عن استراحة المهربين..
وقال هايدوك في برود :
- لقد اتيت لأسألك.. عما اذا كانت لك رغبة تود ان نحققها لك فيما بعد اذا اردت ان تبعث برسالة الى .. صديق لك .. فثق اننا على استعداد لإسداء هذه الخدمة ...
وفهم تومي ان الرجل يحاول ان يستدرجه ليعرق شيئا عمن يتصل به فأجاب..
- كلا و أشكرك..
وأشار هايدوك الى آبل دور.. فقام على الفور بإعادة الاربطة والكمامة وترك الرجلان القبو بعد ان أغلقا الباب خلفهما..
وأحس تومي بالأسى.. لا لانه سيموت بعد ساعات ولكن لانه لا حيلة له في ترك أي دليل يشير الى المعلومات التي حصل عليها وفكر في توبنس .. ان غيابه لا بد ان يكون قد اقلقها..
ولكن لن يخطر ببالها ان تشك في هايدوك بالذات.. بل انه يعتقد انها لن تشك في احد على الاطلاق اذ ستتوقع انه يقوم بمهمة وسيعود منها.. واخذ يفكر في الاستغاثة ولكن فمه كان مكمما، وفي نصف الساعة التالية حاول فك قيوده دون جدوى...
وقدر أن الوقت قد أضحى بعد الظهر. ولم يسمع صوتا او حركة فوقه فاستنتج ان من بالدار قد رحلوا ولعل هايدوك الان يلعب الجولف في النادي، واستشاط تومي غضبا.. كيف ان أحدا لم يشك في هذا المخلوق ذي السحنة البروسية.. يا له من ممثل بارع!.. أما هو فقد وقع في الفخ كالهر...
لو كانت توبنس تتنبأ وتشك.. انها أحيانا تلهم..
ما هذا.. ؟ وأخذ يتسمع الى صوت يأتي من بعيد.. صوت رجل يترنم بلحن .. ولكن ما الفائدة .. انه لا يستطيع ان يصدر أي صوت يلفت الانظار اليه. واقترب الصوت.. انه لحن مألوف لديه..
" لو كنت أنت الفتاة الوحيدة.. وكنت أنا الفتى الوحيد.."
لقد غنى هذا اللحن كثيرا في عام 1917. لعنة الله على صاحب هذا الصوت..
وفجأة تخشب جسد تومي واهتز في عنف ..
انه يعرف صاحب هذا الصوت .. وقال في نفسه .. انه ألبرت بلا شك.. ألبرت يسير بجوار استراحة المهربين... بالقرب منه ولكنه لا يستطيع أن ينبس بأي صوت .. كلا .. ان كل انسان يستطيع ان يحدث اصواتا وفمه مطبق .. فليجرب ذلك ..
فأخذ يموء موءات متقطعة .. كمن يرسل اشارة لاسلكية...
كانت حالة ألبرت بعد أن ترك توبنس على غير ما يرام، فعجب من هؤلاء الالمان الذين يحيون هتلر مئات المرات في اليوم الواحد ويسيرون بخطوة الاوزة .. ويدمرون بلاد العالم بقنابلهم كأنهم طاعون يفتك بالناس، عليهم اللعنة، يجب ان يقفوا عند حد..
وهذه السيدة برسفورد .. ان لها عليه أيادي بيضاء .. والسيد برسفورد .. أين هو الآن يجب أن يجده لها.. وخرج يبحث عن سيده دون ان يرسم لنفسه خطة ما .. فسار كالكلب الامين، يتشمم رائحة سيده وكان قد علم أن الكابتن برسفورد قد تناول طعامه في منزل الكوماندوز هايدوك في استراحة المهربين ويقال انه عاد بعد ذلك الى سان سوسي .. اذن يجب عليه ان يبدأ من حيث انتهى سيده.. فوقف على ابواب سان سوسي عدة دقائق .. ينظر يمنة ويسرة عسى أن يجد شيئا يلفت النظر، ولكنه لم يجد شيئا.. فاتجه صاعدا الى قمة التل متجها الى استراحة المهربين ..
سار يسلي نفسه بترديد ذلك اللحن :
" لو كنت أنت الفتاة الوحيدة .. وكنت أنا الفتى الوحيد ..."
وتقف ألبرت لحظة متطلعا إلى أبواب استراحة المهربين وقال في نفسه.. هنا تناول السيد برسفورد طعامه .. ودار حول المكان من بعيد .. فرأى الأبواب تفتح وتخرج منها سيارة رأى فيها رجلا ضخما يصحب معه أدوات لعب الجولف .. اذن هذا هو الكوماندوز هايدوك.. وبعد لحظة رأى رجلا .. يخرج من باب الحديقة .. وقد أمسك بفأس في يده.. وعاد ألبرت يترنم باللحن مقتربا شيئا فشيئا من المنزل.. وهو يراقب الرجل الذي بدا يفلح الحديقة .. وفجأة قال ألبرت لنفسه مندهشا .. ما أجمل هذا ! يظهر أن الكوماندور يربي الخنازير .. ما أغرب ذلك! ان هذه لا يمكن أن تكون خنازير .. هل هو غطيط، نائم؟ ومن ينام في مثل هذا القبو .. ثم هذا الغطيط المنظم.. انه .. انه يذكره بشيء .. طال به العهد ... ما هو ؟ .. انه قريب الشبه بالشفرة ... شفرة الاستغاثة ..
وعاد يتسمع من جديد .. ثم تلفت حوله يمنة ويسرة ، وركع على ركبتيه ونقر على شباك القبو عدة نقرات وكأنه يجيب تلك الاشارة...
:: الفصل الثالث عشر ::
لم تكن توبنس في حالة طبيعية، وعندما ذهبت الى فراشها في المساء ، ولما أصبح اليوم التالي ووجدت رسالة لها تغيرت حالتها ففضت الرسالة وقرأت فيها:
" عزيزتي باتريشيا
العمة "جراسيا" بحالة خطيرة اليوم.. وقد قرر الاطباء انها قاربت النهاية، اذا أحببت ان تريها يجب أن تحضري اليوم. اذا ركبت القطار الذي يتحرك في العاشرة والثلث الى محطة يارو ستجدين صديقا معه سيارة.. وكان بودي أن أكتب لك في ظرف أحسن من هذا..
بنلوب بلين"
قرأت توبنس الخطاب ثم ظهرت على محياها علامات الاسى ، وكانت مسز أوروك ومسز منتون موجودتين فأخذن جميعا يتحدثن عن أمراض أقاربهن، وبعد أن تناولن طعام الافطار، قامت توبنس الى التليفون.. وألغت موعدها مع حائكة الثياب.. وقابلت مسز برينا وشرحت لها الموقف قائلة: انها سوف تغيب عن المنزل ليلة أو اثنتين..
فقابلت مسز برينا الخبر بعبارات المواساة المعتادة في مثل هذه الظروف، وقالت :
- لم تأتي حتى الآن يا مسز بلنكنسوب أية أخبار عن مستر ميدوز وهذا أمر في غاية الغرابة..
فقالت توبنس :
- لا بد أن يكون قد أصيب في حادثة و..
- ولكن يا مسز بلنكنسوب لو كان الامر كذلك لسمعنا به.. فقد مضى وقت طويل ..
- اذن بماذا تفسرين سبب غيابه؟
- لعمري .. لست أدري ما أقول .. واني أوافق تمام الموافقة على أنه لم يختف بمحض ارادته.. والا لكان أنبأنا على الأقل..
- ربما يكون قد فقد ذاكرته فجأة، فهذا أمر كثير الحدوث في هذه الأيام..
- ربما.. وعلى العموم يا مسز بلنكنسوب نحن لا نعلم كثيرا عن حقيقة مستر ميدوز.. أليس كذلك؟
- ماذا تعنين ؟
- في الواقع لا اصدق كل ما أسمع.. ولكن ..
- تصدقين ماذا؟
- لتك القصة التي يرددونها ..
- أية قصة؟ انني لم أسمع شيئا ..
- طبعا .. انهم لن يقولوا لك شيئا.. أنت بالذات.. وقد سمعتها لأول مرة من المستر كايلي.. وهو كما تعلمين رجل كثير الشكوك ...
- أرجوك أ، تخبريني بما تعلمين..
- حسن .. انه مجرد افتراض .. انهم يقولون أن مستر ميدوز من عملاء الاعداء أو بعبارة أخرى من رجال الطابور الخامس ..
- لم اسمع هذا الهراء قبل الآن ..
- ربما لا يكون صحيحا.. ولكن لقد رؤي كثيرا مع ذلك الشاب الألماني .. وأظنه كان كثير التساؤل عن تقدم العمل في المصنع الكيميائي.. فاستنتج أنهما كانا مشتركين في العمل لحساب العدو ..
- أتمنى ألا يكون ما يقال صحيحا ..
- وعلى الخصوص ان شيلا المسكينة انفطر قلبها حزنا.. ولست أدري لماذا شاءت ظروفها أن تحب ذلك الفتى..
- ان الامور دائما تسير على غير ما تهوى ..
- أنت على حق في ذلك .. هكذا الدنيا .. أحزان وآلام ..
وفجأة سمعتا صوت مسز أوروك تقول :
- هل قطعت عليكما الحديث!
فقالت مسز برينا :
- لا .. أبدا . فقد كنا نتحدث عن غياب المستر ميدوز .. وكيف أن البوليس لم يعثر له على أثر .. لا شك أنك سمعت القصة ..
فقالت مسز أوروك :
- البوليس .. ماذا يمكننا أن ننتظر من ورائه .. انه لا يصلح الا لمخالفة السيارات وتحرير المحاضر لأصحاب الكلاب غير المرخص بها ..
فسألتها توبنس عن رأيها في غياب مستر ميدوز فأجابت :
- لا شك أنك سمعت القصة ..
- قصة .. انه فاستشي وانه من رجال الأعداء .. هذا هراء
- ربما كان ذلك صحيحا .. فقد كنت أراقبه من أول الأمر، وأحسست أنه ليس رجل أعمال متقاعد كما يدعي، بل أدركت أنه أتى إلى هذا المكان لحاجة في نفسه..
فقالت توبنس :
- وعندما أحس بأن البوليس وراءه أختفى .. أليس كذلك ؟
- ربما كان الأمر كذلك.. والا فما رأيك أنت يا مسز برينا ؟
- لا أدري ..
فسألتها توبنس :
- لم تقولي لنا أنت ما رأيك يا مسز أوروك ..
- اني اعتقد ان الرجل بمأمن من الخطر ..
وصعدت توبنس الى غرفتها لتعد حقائبها فجرت نحوها بتي الصغيرة خارجة من غرفة آل كايلي وهي تصيح :
- بطتي .. بطتي ..
فردت توبنس قائلة :
- أهي فوق ؟
فأجابت بتي :
- تحت ..
وظهرت مسز سبروت في تلك اللحظة فأخذت الطفلة تصيح ..
- أخفيني .. أخفيني ..
فقالت مسز سبروت :
- انك لا تستطيعين أن تقومي بلعبة الاخفاء الآن ..
* * *
عندما دخلت توبنس غرفتها ، لاحظت أن يدا عبثت بقبعاتها، فتلفتت حولها في الحجرة فأكدت أن العبث كان في كل مكان.. انهم يبحثون عن شيء لن يجدوه وتركت الخطاب الي وصلها صباح اليوم على منضدة الزينة، ثم خرجت من المنزل ونظرت في ساعتها .. كانت العاشرة، وقالت لنفسها : لا يزال هناك متسع من الوقت ولابد من النجاح ...
* * *
نزلت توبنس في محطة يارو فوجدت سيارة تنتظرها يقودها شاب قال لها:
- تفضلي يا سيدتي..
وبعد أن سارت السيارة مسافة قصيرة وسط الاحراش توقفت ونزلت توبنس فوجدت أنتوني مارسدون في انتظارها فقال لها على الفور :
- ان برسفورد بخير .. وقد خلصناه من الأعداء.. اذ كان قد وقع اسيرا في يدهم ، ولا يمكن أن تريه في الوقت الحاضر، لأسباب خارجة عن ارادتنا .. ثم ان هناك مهمة يجب انهاؤها ..
ونظرت توبنس الى كومة من القماش ملقاة بعيدا فسألت:
- ما هذا ؟
- انه أمر في غاية الخطورة.. انه بقايا باراشوت نزلت به فتاة قبض عليها رجالنا وكانت ترتدي ثياب الممرضات.. وعرفنا انها مكلفة بمهمة سرية ...
- ثم ماذا ؟
- اذا أحببت فانك تستطيعين ان تحلي محلها وتقومي بدورها لتكتشفي كنه مهمتها ..
- انني على استعداد ..
- ما أقوى أعصابك يا مسز برسفورد
- ماذا علي أن أفعل؟
- ان التعليمات التي معها ليست واضحة .. ولكنا وجدنا ورقة مكتوبة بالألمانية في جيب الفتاة.. جاء فيها .. " دوسبري " إلى " ليزريارو " حتى تقاطع الطريق .. ثم شارع " آسال " رقم 14 .. الدكتور " بينيون " ..
ونظرت توبنس الى حيث أشار مارسدون ، فرأت تقاطع الطريق .. وقال الشاب:
- هناك.. ستسيرين في ذلك الطريق نحو خمسة أميال على الأقل..
- ان السير على الأقدام رياضة جميلة ، وأرجو أن يقدم لي الدكتور بينيون طعام الغذاء ..
- هل تتكلمين الألمانية يا مستر برسفورد ؟
- بضع جمل فقط .. لكني سأصر أن يكون الحديث بالإنجليزية وأقول ان تعليماتي تقرر ذلك ..
- انك تخاطرين ..
- هراء! من يتخيل أنني بديلة لتلك التي هبطت بالبراشوت ..
- لقد حسبنا حساب كل ما د ينتظر فحجزنا الرجلين اللذين قبضا على الممرضة الألمانية رغم أنهما من رجالنا زيادة في الحيطة ، والآن سنبدأ في عملية التنكر ..
وبعد نصف ساعة ظهرت توبنس وقد تغير شكلها وتقدمت بها السن عشر سنوات واعرض فكاها . نتيجة لقطع المطاط التي وضعت داخل فمها لتتخذ هيئة الممرضة الألمانية فقال توني مارسدون:
- ستعلمين منه بالتحديد أين ومتى وكيف سيقع الغزو .. ؟
- لا تخشى علي يا طفلي العزيز.
ووقفت توبنس أمام المنزل رقم 14 شارع آسال فلاحظت من لوحة الدكتور بينيون انه طبيب أسنان ، كما لاحظت من طرف عينيها أن توني مارسدون كان يراقبها من بعيد في سيارته، فأدركت أن سيرها على الأقدام كان له حكة .. فان طائرة كانت تتبعها طوال سيرها وفهمت أن العدو كان حريصا على عدم ركوبها في سيارة حتى لا تحدث أي متاعب كانت..
صعدت توبنس درجات المنزل حتى وجدت باب العيادة.. فضغطت الجرس وظهر وراء الباب وجه سيدة انجليزية عجوز..
- هل الدكتور بينيون موجود .. ؟
- هل أنت الممرضة إيلتون ..
- نعم ..
- نعم ...
- إذن .. اتبعيني ..
ودخلت توبنس .. فقالت السيدة المسنة بعد أن أغلقت الباب :
- أرجو أ، تنتظري .. ريثما أخبر الدكتور ..
وانتظرت توبنس ان يفتح الباب ويظهر لها الدكتور بينيون .. ترى من يكون.. هل هو شخص غريب عنها ؟ أو شخص سبق أن رأته ؟ وماذا يحدث لو كان الدكتور بينيون هو الشخص الذي تفكر فيه ؟
وفتح الباب .. وخرج منه رجل لم يخطر على بال توبنس مطلقا ..
الكوماندوز " هايدوك " ..!
:: الفصل الرابع عشر ::
تمالكت توبنس أعصابها وتناست إلى حين .. الدور الذي استنتجت أن الكوماندوز هايدوك قد لعبه في اختفاء تومي وكان لابد لها أن تتمالك أعصابها فعليها أن تعمل المستحيل حتى لا يكتشف دورها .. وقفت على قديمها .. كأي امرأة ألمانية تواجه رئيسها ..
- اذن حضرت ..
- نعم .. انني الممرضة " إيلتون " ..
وابتسم هايدوك كما لو قد سمع دعابة وقال :
- عظيم .. عظيم .. أيتها الممرضة ايلتون .. تفضلي بالجلوس ..
- أعتقد أنه علي أن أتلقى منك تعليمات ..
- أتعلمين اليوم ؟
- انه الرابع ..
- اذن أنت تعلمين ذلك .. وعقد ما بين حاجبيه ..
فقالت توبنس بعد فترة سكون :
- أرجو أن تحدثني عما يجب علي ان أفعله ..
- كل شيء في أوانه يا عزيزتي .. ثم قال بعد لحظة :
- قد سمعت بلا شك عن سان سوسي ..
- لا ..
- ألم تسمعي عنها ؟
- كلا ..
فابتسم الكوماندوز ابتسامة غريبة ..
- اذن أنت لم تسمعي عن سان سوي ! ان هذا ليدهشني كثيرا فاني أعلم أنك كنت تقيمين هناك طوال الشهر الماضي أليس كذلك يا مسز بلنكنسوب ؟
- اني لا أفهم ما تعني يا دكتور بينيون .. لقد هبطت بالبراشوت صباح اليوم ..
- آه .. انني لست الدكتور بينيون يا عزيزتي .. الدكتور بينيون هو طبيبي وقد سمح لي باستعارة عيادته بعض الوقت ..
- حقا!!؟
- حقا يا مسز بلنكنسوب .. أو لعلك تفضلين أن أخاطبك باسمك الحقيقي يا مسز برسفورد .. لقد انكشفت اللعبة أخيرا .. وقال العنكبوت للذبابة .. " هذا أنت قد وقعت في خيوطي " وأحب أن أنبهك على نصيحة هامة .. هي ألا تصيحي فتزعجي الجيران .. فستقلين قبل أن تفتحي فاك.. ثم لا تنسي أن هذه عيادة طبيب أسنان، وكثيرا ما سمع الجيران أصوات المرضى ..
- يخيل إلي أنك فكرت في كل شيء .. لكن هلا حسبت حساب ان لي أصدقاء بالخارج يعرفون أين أنا؟
- أوه .. هل تفكرين في الشاب " أنتوني مارسدون " .. يؤسفني يا مسز برسفورد أن أصارحك بأن أنتوني من أنشط الشباب الذين يعملون تحت أمرتنا ، وقد استطاع بلباقته – بعد أن عرف عنك كل شيء من ابتك – أن يجعلك تؤمنين بقصة البراشوت بكل بساطة ..
- لست أفهم معنى هذا ..
- حقا .. لقد عملنا على أن يفقد أصدقاؤك أثرك اذا تتبعوه ، وقد يصلون إلى محطة يارو فيعلمون أنك ركبت في سيارة مع أحد الشباب.. أما الممرضة التي لا تشبهك من قريب أو بعيد .. والتي سارت على قدميها بين الساعة الواحدة والثانية في مدينة ليبرزيارو فإن أحدا لن يدرك أن ثمة علاقة بينها وبين اختفائك ..
- وبعد ؟
- انني معجب بأعصابك .. بل أنا شديد الاعجاب ، ويحززني استعمال الشدة معك ، ولكني مضطر لأن أعلم بالضبط كل ما اكتشفت في سان سوي .. واني أنصحك .. ولعلك تدركين ما قد يقود إليه عنادك..
فنظرت إليه توبنس بازدراء .. فاستطرد :
- نعم .. انني أقدر ما تتميزين بع من ثبات وعزم ولكن .. ماذا عن الوجه الآخر للصورة ؟
- ماذا تعني؟
- اني أقصد زوجك.. " توماس برسفورد ".. الذي كان يقيم إلى عهد قريب في سان سوسي تحت اسم مستر ميدوز .. والذي يقيم الان في قبو منزلي ..
- تومي .. لا أصدق ذلك ..
- بل يجب أن تصدقيه .. فان تومي العزيز كان ولا يزال في قبضة يدي ، فإذا أجبت عن اسئلتي أنقذته.. أما اذا رفضت فستسير الأمور على النحو المرسوم لها.. اذ سيقتل ويقذف بجثته في أعماق اليم ..
- ماذا تريد أن تعرف؟
- لحساب من تعملين ؟ وما وسيلتك للاتصال بهم ؟ وما المعلومات التي أبلغتها لهم حتى هذه اللحظة ؟ وبعبارة أخرى كل ما تعلمين ..
فهزت توبنس كتفيها وقالت :
- أستطيع أن أقول لك من الأكاذيب ما يحلو لي ..
- كلا ، انك لا تستطيعين ذلك .. لأنني سأبدأ بفحص كل ما تقولين .. ثم لا تنسي يا سيدتي العزيزة انني أقدر مشاعرك نحو هذا العمل .. ثم انني أقدر كل مجهوداتك أنت وزوجك .. ونحن في حاجة إلى أناس من امثالكما لبناء الدولة الجديدة التي ستقوم على أنقاض هذه الدولة الغبية ..
نظرت توبنس اليه ثم راحت تبحث عن كلمة ترد بها عليه ، وقالت دون وعي منها :
- أحلام ساندريلا .. أحلام ساندريلا ...!
وأرادت بعبارتها التهكمية هذه أن تشبه آمال النازيين بقصة الاطفال المعروفة التي رأت كتابها مع الطفلة بتي .. ولكنها دهشت عندما وجدت وقع هذه الكلمات على هايدوك كالسحر بل انها فزعت لما رأته على وجهه، اذ قفز واقفا مقتم الوجه ، ورأت فيه توبنس فجاة ما رآه تومي من قبل .. الضابط البروسي الفظ الذي اخذ يسبها باللغة الألمانية بأوقح الألفاظ .. ثم قال بالإنجليزية :
- أيتها المخبولة ، انك لا تدركين نتائج اجابتك هذه .. لقد حكمت بالإعدام على زوجك وعلى نفسك .. ثم صاح بأعلى صوته :
- آنا ..
فدخلت المرأة التي فتحت الباب لتوبنس فدفع هايدوك مسدسا في يدها وقال لها :
- راقبيها ولا تترددي في اطلاق النار اذا احتاج الأمر ..
وخرج كالعاصفة من الباب وأغلقه وراءه .. فقالت توبنس لـ آنا :
- أ ستقتلينني حقا؟
- تحاولي أن تخدعينني .. لقد قتل ولدي أونو في الحرب الماضية وكان سني حينئذ ثمانية وثلاثين عاما وقد اصبحت في الثانية والستين الان ، ورغم ذلك ..
وقد ذكر توبنس وجه هذا المرأة تلك المرأة البولندية واندا بولونسكا والأمومة.. بل احساس الأم حين تفقد طفلها .. ولمعت فكرة في رأس توبنس ... تلك الفكرة التي حاولت طويلا أن تتذكرها عن سليمان الحكيم ..
وفتح الباب ودخل الكوماندوز هايدوك .. وقال في غضب ..
- أين هي ، أين أخفيتها ؟
فحملقت فيه توبنس ، فان سؤاله لم يكن له معنى في نظرها لأنها لم تأخذ شيئا ولم تخف شيئا.. وقال هايدوك لـ آنا :
- اخرجي ...
فسلمته المرأة المسدس وخرجت .. وجلس هايدوك على أحد المقاعد وكان واضحا انه يبذل جهدا جبارا ليتمالك أعصابه .. ثم قال :
- لن تستطيعي الانتفاع بها .. فأنت هنا تحت رحمتي .. ولدي من الوسائل ما أحمل به الناس على الكلام، وستضطرين تحت ضغط هذه الوسائل أن تعترفي لي بالحقيقة ماذا فعلت بها ؟
ورأت توبنس أن هذه فرصتها الوحيدة للمساومة لو استطاعت أن تعرف ما " هذه " التي خبأتها.. فقالت في حذر :
- كيف عرفت أنها في حوزتي؟
- من كلامك أيتها الغبية .. واني أعلم أنها ليست معك الان ، فقد غيرت ملابسك. فقالت توبنس :
- افترض انني أرسلتها بالبريد إلى بعضهم ..
- لا تكوني غبية .. فان كل ما يرسل بالبريد يفحص واني واثق انك لم ترسليها بالبريد .. وهناك وسيلة وحيدة .. وهي انك خبأتها في سان سوسي هذا الصباح قبل خروجك.. واني أسمح لك بثلاث دقائق لتقولي اين خبأتها ..
ووضع ساعته على المنضدة وقال :
- ثلاث دقائق يا مسز توماس برسفورد ..
وأخذت دقات الساعة تسمع في الغرفة .. وجلست توبنس صامتة دون أن يبدو على وجهها أي تغيير ، وانكشف لها في تلك الحظات كل ما كان خافيا عليها ..
وقال هايدوك فجاة :
- بقيت لك عشر ثوان ..
فأخذت تراقبه كما لو كانت في حلم وقد رفع مسدسه في يده وهو يعد .. واحد . اثنين .. ثلاثة .. اربعة .. خمسة ..
وعندما وصل العد الى ثمانية .. انطلقت الرصاصة . وانقلب بمقعده ..
لم يكن قد لاحظ تحت تأثير حالته العصبية مراقبته للساعة أن الباب كان يفتح ببطء .
ووقفت توبنس على قدميها واتجهت مسرعة نحو الرجال الذين دخلوا من الباب وصاحت :
- مستر جرانت.. لقد تخلصنا الان من ( ن ) ...
- نعم .. نعم يا عزيزتي .. وأنت بخير الان ..
- اذن أسرعوا فليس لدينا وقت .. ألديكم سيارة هنا ؟
- نعم ..
- هيا الى سان سوي .. حالا .. قبل ان يتصل به أحد هنا ولا يجد ردا ..
وأخذ عداد السرعة في السيارة يتحرك نحو النهاية .. ولم ينطق أحد من راكبي السيارة بحرف واحد فيما عدا توبنس التي قالت :
- تومي ..
فأجابها جرانت :
- بخير ..
وأخيرا وصلت السيارة فقفزت توبنس وتبعها جرانت وأخذا يرتقيان الدرج في سرعة جنونية .. فلمحت توبنس الادراج في غرفتها مقلوبة رأسا على عقب ، فمرت بها ودخلت الى غرفة آل كايل وسارت الى الفراش ورفعت الاغطية ثم استدارت الى مستر جرانت وقدمت اليه أحد كتب الاطفال وقالت له :
- ها أنت تجد كل ما تريد في هذا الكتاب ..
وسمعا في هذه اللحظة صوتا يقول :
- ماذا يجري هنا ؟
والتفتا نحو الباب فرأيا مسز سبروت واقفة به فقالت توبنس :
- و الان أقدم لك ( م) .. نعم مسز سبرون .. كان يجب أن أعرف ذلك منذ حين ..
--------------------------------------------------------------------------------
:: الفصل الخامس عشر ::
جلس تومي و مستر جرانت و ألبرت يحتسون الشراب وقد وقفت توبنس تقول :
- كان يجب ان اعرف ذلك منذ حين..
فقال تومي :
- حدثينا بما عندك ..
- عليك أن تبدأ أنت أولا..
- ليس لدي كثير .. ان حادثا عارضا هيأ لي الكشف عن سر الجهاز اللاسلكي المخبأ في حمام استراحة المهربين.. وقد خيل الي انني خرجت بهذا السر .. ولكن هايدوك كان أحرص عليه مني ..
فقاطعته توبنس :
- فاتصل بمسز سبروت تليفونيا ، فانتظرتك بباب الفيلا ومعها مطرقة .. وقد غابت عن لعب الورق ثلاث دقائق فقط, ولاحظت فعلا انها كانت تلهث لما عادت ، ومع ذلك فلم أشك فيها مطلقا ..
فقال تومي :
- يأتي بعد ذلك دور ألبرت ، فقد اكتشف الرسالة اللاسلكية التي بعثتها إليه من أنفي فاتصل بمستر جرانت ، وحضر كلاهما في تلك الليلة واتفقنا على أن أبقى حيث أنا ، حتى يتاح لنا القبض على الجماعة التي وكل إليها أمر قتلي وقذف جثتي في البحر ..
فقال مستر جرانت :
- وعندما خرج هايدوك من استراحة المهربين احتل رجالي المكان..
فقالت توبنس :
- كنت أعني الجميع اذ انني شككت في كل النزلاء ما عادا مسز سبروت ، وعندما استمعت الى ذلك الحديث التليفوني عن الرابع من الشهر كان هناك ثلاثة أشخاص في المنزل .. شككت في اثنين هما المسز برينا والمسز أوروك، ثم اتفقت مع ألبرت على ما يفعل.. وفجأة ظهر أنتوني مارسدون على المسرح وقد أقنعني في أول الأمر أنه على علاقة بابنتي ديبورا ولكني تذكرت أنني لم أره يزورنا من قبل ورغم أنه أظهر لي أنه يعلم كل شيء عن عملي في سان سوسي فقد صدق أن تومي في اسكتلندا فرأيت أن ذلك من الغرابة بمكان اذ انه ليس هناك من يعلم حقيقة عملي في سان سوسي سوى مستر جرانت الذي كان قد اخبرني أن رجال الطابور الخامس منتشرون في كل مكان ، فصممت على أن أكشف حقيقة مارسدون هذا، فقلت له شيئا عن العمة " جراسيا " وصديقتي " بنلوب بلين " باعتبارهما من الوسائل التي يتصل بي تومي بها.. وقد نجحت الخطة فقد وصلني خطاب من صديقتي بنلوب بلين المزعومة فتأكدت أن لعبتي قد جازت على مارسدون ولم يكلفني اتمام خطتي سوى حديثي لحائكة الثياب بالتليفون التي ألغيت معها الموعد المتفق عليه ولم يكن في الواقع حديثي هذا إلا مع ألبرت الذي فهم كيف يتصرف من ناحيته.. ثم سرت إلى نهاية الشوط وأنا أعلم أن مستر جرانت على علم بأنني في طريقي إلى يارو . كما أخبره ألبرت ..
فقال مستر جرانت :
- وقد أدينا واجبنا على خير وجه.. فقد تبعناك خطوة خطوة .. دون أن يشعر الأعداء حتى وصلت الى عيادة الطبيب، وقد عرفنا كيف نحتال على تلك المرأة الألمانية .. فدخلنا في الوقت المناسب ..
فقالت توبنس :
- كنت أعلم أنكم آتون وكل ما فعلت أنني أطلت الوقت مع هايدوك.. والغريب في الأمر أن المعضلة كلها انحلت في تلك اللحظات .. وعندما قلت " أحلام ساندريلا " انقلب كيان هايدوك وتبين لي ان ذلك لم يكن بسبب سخافة ما قلت .. ولكن لأن وراء تلك الكلمات سرا خطيرا بالنسبة إليه.. ثم ما بدا من المرأة الالمانية آنا ذكرني بما بدا على وجه واندا بولونكا البولندية ، وعندئذ تذكرت سليمان الحكيم واكتشفت الأمر كله.. هو ان بتي لم تكن ابنة مسز سبروت ..
فصاحوا جميعا .. وكيف ذلك ..!
فقالت توبنس :
- أتذكرون المرأتين اللتين ذهبتا إلى سليمان بطفل وكل منهما تدعي أنه ولدها، وكيف أن سليمان حكم بقسمة الطفل بينهما ، فرضيت الأم الزائفة بذلك، ولكن الام الحقيقية، فضلت أن تأخذه الأخرى على أن تراه يذبح.. والذي حدث في تلك الليلة أن قتلت مسز سبروت المرأة الأخرى.. وقلتم جميعا حينئذ.. انها معجزة دامية .. انها معجزة الغريزة. فقد كان من الجائز جدا أن تصاب الطفلة.. والواقع أنه لو كانت الطفلة ابنة مسز سبروت ما خاطرت بإطلاق النار ومعنى هذا ان بتي لم تكن ابنتها ..
- ولكن كيف ..!
- لأن " واندا بولونكا " هي أم بتي الحقيقية وتذكرت احساسي بسبب رؤيتي لوجهها عندما رأيتها أول مرة .. كان الشبه بينها وبين بتي هو السبب في ذلك الاحساس..
- يا للمسكينة .. لقد سمحت لمسز سبروت بتبني طفلتها فلاقت حتفها ..
- ولكن لماذا أرادت مسز سبروت أن تتبنى طفلة.. ؟
- لسبب بسيط.. فان أحدا لم يشك اطلاقا في مسز سبروت.. اذ لم يحدث في تاريخ الجاسوسية .. أن كانت هناك جاسوسة تصحب معها طفلة .. ولا شك أنكم تذكرون أن مسز سبروت رفضت استدعاء البوليس اذ كانت تعلم انها رغم ما دفعت من نقود لتلك المرأة، لم تستطع ارضاءها وأدركت أن الأم هي التي استعادت طفلتها، وخشيت أن يكتشف البوليس الحقيقة، فعندت الى كتابة تلك الرسالة التي زعمت انها وجدتها في غرفتها، ثم تحايلت على استدعاء الكوماندوز ليساعدها في محنتها.. ثم حدث ما تعرف . أما عن عبث بتي بأربطة حذائي فلا شك انها كانت ترى مسز سبروت تفعل ذلك بالمياه بواسطة الأربطة المشبعة بالسم ، ولم يكن لكارل يد في تلك الجريمة، اذ لا بد ان رأت مسز سبروت بتي تقلدها في غرفتي فزيفت أدلة ضد كارل وقبض عليه اذ وجدت بعض الاربطة المسممة في حجرته وفي معمله..
وقال مستر جرانت:
- وهناك فائدة أخرى من وجود الطفلة مع مسز سبروت.. لقد جعلت من أقاصيصها القديمة سجلا لأعمال الجاسوسية وحرمت على الطفلة أن ت لعب بها بحجة قذارتها.. لقد كشف الاخصائيون في كتاب " أحلام ساندريلا " معلومات هامة غير الاسطول تبت بحبر سري كذلك بقية الكتب .. ولقد كان الفضل كله لك يا سيدتي ..
بقيت بعد ذلك مفاجأة يسرني أن أخبركم بها ..
هي أن كارل فون دينيم ليس كارل فون دينيم على الاطلاق . انه صديق لصاحب ذلك الاسم الذي قتله النازي .. ومنذ سنوات كلفنا أحد رجالنا بمهمة في ألمانيا فتعرف على كارل فون دينيم الحقيقي وقد عرف أسرار عائلته فما قتل كارل الحقيقي اتخذ رجلنا شخصيته وانتحل اسمه اتماما للمهمة المكلف بها، وقبل الحرب مباشرة عاد الى انجلترا والتحق بالعمل في معمل الكيميائية منتحلا شخصية كارل فون دينيم اتماما لمهمتنا .. وقد عرفت شيلا أخيرا وقبلت أن تتزوج به عندما طلب يدها ...
بدأ تومي يحس كأنما كرة نازية تسبح في عينيه ، بعد أن كان قد فقد الوعي مدة لم يستطع حسبانها، وتجمع الألم مجسما في مركز تلك الكرة ، وأخذت تسبح ببطء، ثم أحس فجأة أن نواة ذلك الألم هو رأسه المحطم..
وأخذ يستفيق شيئا فشيئا ويعي بعض ما هو فيه فأدرك ان اطرافه قد تثلجت وأنه جائع ، وانه غير قادر على تحريك شفتيه ..
ان رأسه ملقى على أرض .. أرض جامدة .. أقرب الاشياء الى صخر صلد . . وبدأت ذاكرته تعود إليه شيئا فشيئا.. فتذكر هايدوك.. وجهاز اللاسلكي .. والساقي الألماني ودخوله من أبواب سان سوسي .. ثم ما حدث بعد ذلك ..
وعاد يقول لنفسه .. هايدوك .. لقد عاد هايدوك الى استراحة المهربين أمامي وأغلق الباب خلفه .. ترى كيف رتب الامور بحيث يسبقه الى سان سوسي، وينتظره هناك.. ؟ ان ذلك أمر مستحيل.. فلم يره في الطريق .. اذن .. لا بد أن يكون الساقي .. ولكن لا .. لقد رآه ينظم المائدة استعدادا لإفطار سيدة في صباح اليوم التالي .. وعلى كل .. فان ذلك لا أهمية له .. انما المهم ان يعلم أين هو الآن ؟ .. كانت عيناه قد اعتادتا الظلام فرأى بصيصا من نور ينبعث من نافذة صغيرة في أعلى المكان الذي كان فيه ، وأدرك انه ملقى في قبو و أن يديه قد قيدا وكذلك رجليه، وأنه قد كمم بإحكام بحيث لا يسمع له صوت .. وقد بدأ يحاول تحريك أطرافه دون جدوى .. وبعد لحظات سمع صوت باب يفتح ، في مكان ما خلفه .. ودخل رجل يحمل شمعة ثبتها على الارض ، ثم خرج وعاد من جديد يحمل في يديه صينية عليها دورق به ماء وكوب وبعض الخبز والجبن .. وقد عرف تومي فيه آبل دور الذي أخذ يتحسس الأربطة والكمامة ، ثم قال:
- سأنزع عنك هذه الكمامة لتاكل، وإذا بدر منك أي صوت سأعيد ربطها من جديد..
فحاول تومي أن يهز رأسه ايجابا ولكنه لم يستطع الا ان يفتح جفنيه ويقفلهما علامة على رضاه.. فأخذ آبل دور ينزع عنه الكمامة ببطء واستطاع تومي بعد عدة دقائق أن يحرك فيه وفمه، فأمسك آبل دور بالكوب وقربه من شفتيه فجرع قليلا بصعوبة في أول الأمر، ثم استطاع أن يزدرد الماء ازدرادا، فأحس أن حالته أصبحت خيرا مما كانت ..
ثم امسك الرجل بقطعتي الخبز والجبن و رفعهما الى فم تومي، واستمرت العملية بعض الوقت.. وشرب تومي أغلب ما كان في الدورق من الماء ، ثم سأل الرجل :
- وما القسم الثاني من برنامجكم؟
ولم يجب أبل دور، ولكنه مد يده إلى الكمامة.. فأسرع تومي قائلا :
- اريد أن أقابل الكوماندوز هايدوك ..
فهز آبل دور رأسه علامة عدم الموافقة، وأعاد ربط الكمامة ، وهكذا ترك تومي في ظلام دامس ، فنام..
واستيقظ على صوت الباب يفتح من جديد، ودخل في هذه المرة هايدوك و آبل دور معا ، وأزيلت الكمامة والأربطة .. وكان هايدوك ممسكا بمسدس اتوماتيكي في يده ..
ولم يكن تومي مطمئنا الى نجاح الخطة التي صمم عليها ، ولكنه قال :
- لست أفهم معنى لكل هذا يا هايدوك.. فقد اختطفت بدون أي مبرر..
- لا تقلق بالك.. المسألة أهون مما تظن..
- هل لمجرد كونك عضوا في ادارة المخابرات تظن نفسك تستطيع ان تفعل ما يحلو لك ؟
- لا .. لا .. يا ميدوز .. فأنت لم تقتنع بقصتي كما رأيت.. ولا حاجة لنا للاستمرار في هذه المهزلة..
ولكن تومي لم يظهر أية بادرة تبين فهمه لما يقول الكوماندور، تمنى في أعماق نفسه أن يون اصراره على التغابي، وسيلة تخرجه من المأزق الذي وقع فيه، فقال :
- من تظن نفسك ، بحق الشيطان، مهما كنت ، ومهما كانت القوات التي تخضع لك فانه لا حق لك ان تعاملني هذه المعاملة ...
فقال الآخر ببرود :
- انك تمثل دورك تمثيلا بارعا.. وليس يهمني اذا كنت من العاملين في ادارة المخابرات البريطانية أو انك هاو مفتون ..
- لا أدري عما تتحدث ..
- كفى يا ميدوز .. كفى أيها اللعين .. لم يبق لدي من الوقت ما يسمح لي بأن أعلم من أنت أو من أرسلك، وليس يهمني هذا الان .. فالوقت ضيق، ولن أترك لك الفرصة لتبلغ من تريد تبليغه، ما رأيت ..
- لا بد أن البوليس يبحث عني .. منذ تغيبت ..
- لقد حضر رجلان من رجال البوليس، في أول ليلة اختفيت فيها .. الى هنا .. وكلاهما كان صديقا لي .. وقد سألاني كل ما أعلم عن المستر ميدوز .. فأظهرت عجبي لاختفائه، واعتقد ان احدا منهما لا يتطرق ذهنه ان الرجل الذي يبحث عنه صريع تحت اقدامه ولا شك ان انك لم تنس خروجك من هذا المنزل سليما معافى ولا اظن ان هناك عقلية في العالم تشك في وجودك عندي ...
- انك لا تستطيع ان تبقيني هنا الى الابد ..
- بن أحتاج الى ذلك .. وقد أبقيك الى مساء الغد .. وهناك قارب صغير ينتظرك ببابي لتقوم فيه برحلة ، تسترد فيها صحتك.. الى الأبد ..
- اني أعجب، لم لم تصرعني في تلك الليلة؟
- ان الجثث تفوح رائحتها في مثل هذا المكان يا عزيزي ، ولذلك أجلنا ذلك الى حين وصول الزورق..
وفهم تومي انه على حق في ذلك، فعندما يصل الزورق يستطيعون قتله ونقل جثته ليقذفوا بها في اليم بعيدا عن استراحة المهربين..
وقال هايدوك في برود :
- لقد اتيت لأسألك.. عما اذا كانت لك رغبة تود ان نحققها لك فيما بعد اذا اردت ان تبعث برسالة الى .. صديق لك .. فثق اننا على استعداد لإسداء هذه الخدمة ...
وفهم تومي ان الرجل يحاول ان يستدرجه ليعرق شيئا عمن يتصل به فأجاب..
- كلا و أشكرك..
وأشار هايدوك الى آبل دور.. فقام على الفور بإعادة الاربطة والكمامة وترك الرجلان القبو بعد ان أغلقا الباب خلفهما..
وأحس تومي بالأسى.. لا لانه سيموت بعد ساعات ولكن لانه لا حيلة له في ترك أي دليل يشير الى المعلومات التي حصل عليها وفكر في توبنس .. ان غيابه لا بد ان يكون قد اقلقها..
ولكن لن يخطر ببالها ان تشك في هايدوك بالذات.. بل انه يعتقد انها لن تشك في احد على الاطلاق اذ ستتوقع انه يقوم بمهمة وسيعود منها.. واخذ يفكر في الاستغاثة ولكن فمه كان مكمما، وفي نصف الساعة التالية حاول فك قيوده دون جدوى...
وقدر أن الوقت قد أضحى بعد الظهر. ولم يسمع صوتا او حركة فوقه فاستنتج ان من بالدار قد رحلوا ولعل هايدوك الان يلعب الجولف في النادي، واستشاط تومي غضبا.. كيف ان أحدا لم يشك في هذا المخلوق ذي السحنة البروسية.. يا له من ممثل بارع!.. أما هو فقد وقع في الفخ كالهر...
لو كانت توبنس تتنبأ وتشك.. انها أحيانا تلهم..
ما هذا.. ؟ وأخذ يتسمع الى صوت يأتي من بعيد.. صوت رجل يترنم بلحن .. ولكن ما الفائدة .. انه لا يستطيع ان يصدر أي صوت يلفت الانظار اليه. واقترب الصوت.. انه لحن مألوف لديه..
" لو كنت أنت الفتاة الوحيدة.. وكنت أنا الفتى الوحيد.."
لقد غنى هذا اللحن كثيرا في عام 1917. لعنة الله على صاحب هذا الصوت..
وفجأة تخشب جسد تومي واهتز في عنف ..
انه يعرف صاحب هذا الصوت .. وقال في نفسه .. انه ألبرت بلا شك.. ألبرت يسير بجوار استراحة المهربين... بالقرب منه ولكنه لا يستطيع أن ينبس بأي صوت .. كلا .. ان كل انسان يستطيع ان يحدث اصواتا وفمه مطبق .. فليجرب ذلك ..
فأخذ يموء موءات متقطعة .. كمن يرسل اشارة لاسلكية...
كانت حالة ألبرت بعد أن ترك توبنس على غير ما يرام، فعجب من هؤلاء الالمان الذين يحيون هتلر مئات المرات في اليوم الواحد ويسيرون بخطوة الاوزة .. ويدمرون بلاد العالم بقنابلهم كأنهم طاعون يفتك بالناس، عليهم اللعنة، يجب ان يقفوا عند حد..
وهذه السيدة برسفورد .. ان لها عليه أيادي بيضاء .. والسيد برسفورد .. أين هو الآن يجب أن يجده لها.. وخرج يبحث عن سيده دون ان يرسم لنفسه خطة ما .. فسار كالكلب الامين، يتشمم رائحة سيده وكان قد علم أن الكابتن برسفورد قد تناول طعامه في منزل الكوماندوز هايدوك في استراحة المهربين ويقال انه عاد بعد ذلك الى سان سوسي .. اذن يجب عليه ان يبدأ من حيث انتهى سيده.. فوقف على ابواب سان سوسي عدة دقائق .. ينظر يمنة ويسرة عسى أن يجد شيئا يلفت النظر، ولكنه لم يجد شيئا.. فاتجه صاعدا الى قمة التل متجها الى استراحة المهربين ..
سار يسلي نفسه بترديد ذلك اللحن :
" لو كنت أنت الفتاة الوحيدة .. وكنت أنا الفتى الوحيد ..."
وتقف ألبرت لحظة متطلعا إلى أبواب استراحة المهربين وقال في نفسه.. هنا تناول السيد برسفورد طعامه .. ودار حول المكان من بعيد .. فرأى الأبواب تفتح وتخرج منها سيارة رأى فيها رجلا ضخما يصحب معه أدوات لعب الجولف .. اذن هذا هو الكوماندوز هايدوك.. وبعد لحظة رأى رجلا .. يخرج من باب الحديقة .. وقد أمسك بفأس في يده.. وعاد ألبرت يترنم باللحن مقتربا شيئا فشيئا من المنزل.. وهو يراقب الرجل الذي بدا يفلح الحديقة .. وفجأة قال ألبرت لنفسه مندهشا .. ما أجمل هذا ! يظهر أن الكوماندور يربي الخنازير .. ما أغرب ذلك! ان هذه لا يمكن أن تكون خنازير .. هل هو غطيط، نائم؟ ومن ينام في مثل هذا القبو .. ثم هذا الغطيط المنظم.. انه .. انه يذكره بشيء .. طال به العهد ... ما هو ؟ .. انه قريب الشبه بالشفرة ... شفرة الاستغاثة ..
وعاد يتسمع من جديد .. ثم تلفت حوله يمنة ويسرة ، وركع على ركبتيه ونقر على شباك القبو عدة نقرات وكأنه يجيب تلك الاشارة...
:: الفصل الثالث عشر ::
لم تكن توبنس في حالة طبيعية، وعندما ذهبت الى فراشها في المساء ، ولما أصبح اليوم التالي ووجدت رسالة لها تغيرت حالتها ففضت الرسالة وقرأت فيها:
" عزيزتي باتريشيا
العمة "جراسيا" بحالة خطيرة اليوم.. وقد قرر الاطباء انها قاربت النهاية، اذا أحببت ان تريها يجب أن تحضري اليوم. اذا ركبت القطار الذي يتحرك في العاشرة والثلث الى محطة يارو ستجدين صديقا معه سيارة.. وكان بودي أن أكتب لك في ظرف أحسن من هذا..
بنلوب بلين"
قرأت توبنس الخطاب ثم ظهرت على محياها علامات الاسى ، وكانت مسز أوروك ومسز منتون موجودتين فأخذن جميعا يتحدثن عن أمراض أقاربهن، وبعد أن تناولن طعام الافطار، قامت توبنس الى التليفون.. وألغت موعدها مع حائكة الثياب.. وقابلت مسز برينا وشرحت لها الموقف قائلة: انها سوف تغيب عن المنزل ليلة أو اثنتين..
فقابلت مسز برينا الخبر بعبارات المواساة المعتادة في مثل هذه الظروف، وقالت :
- لم تأتي حتى الآن يا مسز بلنكنسوب أية أخبار عن مستر ميدوز وهذا أمر في غاية الغرابة..
فقالت توبنس :
- لا بد أن يكون قد أصيب في حادثة و..
- ولكن يا مسز بلنكنسوب لو كان الامر كذلك لسمعنا به.. فقد مضى وقت طويل ..
- اذن بماذا تفسرين سبب غيابه؟
- لعمري .. لست أدري ما أقول .. واني أوافق تمام الموافقة على أنه لم يختف بمحض ارادته.. والا لكان أنبأنا على الأقل..
- ربما يكون قد فقد ذاكرته فجأة، فهذا أمر كثير الحدوث في هذه الأيام..
- ربما.. وعلى العموم يا مسز بلنكنسوب نحن لا نعلم كثيرا عن حقيقة مستر ميدوز.. أليس كذلك؟
- ماذا تعنين ؟
- في الواقع لا اصدق كل ما أسمع.. ولكن ..
- تصدقين ماذا؟
- لتك القصة التي يرددونها ..
- أية قصة؟ انني لم أسمع شيئا ..
- طبعا .. انهم لن يقولوا لك شيئا.. أنت بالذات.. وقد سمعتها لأول مرة من المستر كايلي.. وهو كما تعلمين رجل كثير الشكوك ...
- أرجوك أ، تخبريني بما تعلمين..
- حسن .. انه مجرد افتراض .. انهم يقولون أن مستر ميدوز من عملاء الاعداء أو بعبارة أخرى من رجال الطابور الخامس ..
- لم اسمع هذا الهراء قبل الآن ..
- ربما لا يكون صحيحا.. ولكن لقد رؤي كثيرا مع ذلك الشاب الألماني .. وأظنه كان كثير التساؤل عن تقدم العمل في المصنع الكيميائي.. فاستنتج أنهما كانا مشتركين في العمل لحساب العدو ..
- أتمنى ألا يكون ما يقال صحيحا ..
- وعلى الخصوص ان شيلا المسكينة انفطر قلبها حزنا.. ولست أدري لماذا شاءت ظروفها أن تحب ذلك الفتى..
- ان الامور دائما تسير على غير ما تهوى ..
- أنت على حق في ذلك .. هكذا الدنيا .. أحزان وآلام ..
وفجأة سمعتا صوت مسز أوروك تقول :
- هل قطعت عليكما الحديث!
فقالت مسز برينا :
- لا .. أبدا . فقد كنا نتحدث عن غياب المستر ميدوز .. وكيف أن البوليس لم يعثر له على أثر .. لا شك أنك سمعت القصة ..
فقالت مسز أوروك :
- البوليس .. ماذا يمكننا أن ننتظر من ورائه .. انه لا يصلح الا لمخالفة السيارات وتحرير المحاضر لأصحاب الكلاب غير المرخص بها ..
فسألتها توبنس عن رأيها في غياب مستر ميدوز فأجابت :
- لا شك أنك سمعت القصة ..
- قصة .. انه فاستشي وانه من رجال الأعداء .. هذا هراء
- ربما كان ذلك صحيحا .. فقد كنت أراقبه من أول الأمر، وأحسست أنه ليس رجل أعمال متقاعد كما يدعي، بل أدركت أنه أتى إلى هذا المكان لحاجة في نفسه..
فقالت توبنس :
- وعندما أحس بأن البوليس وراءه أختفى .. أليس كذلك ؟
- ربما كان الأمر كذلك.. والا فما رأيك أنت يا مسز برينا ؟
- لا أدري ..
فسألتها توبنس :
- لم تقولي لنا أنت ما رأيك يا مسز أوروك ..
- اني اعتقد ان الرجل بمأمن من الخطر ..
وصعدت توبنس الى غرفتها لتعد حقائبها فجرت نحوها بتي الصغيرة خارجة من غرفة آل كايلي وهي تصيح :
- بطتي .. بطتي ..
فردت توبنس قائلة :
- أهي فوق ؟
فأجابت بتي :
- تحت ..
وظهرت مسز سبروت في تلك اللحظة فأخذت الطفلة تصيح ..
- أخفيني .. أخفيني ..
فقالت مسز سبروت :
- انك لا تستطيعين أن تقومي بلعبة الاخفاء الآن ..
* * *
عندما دخلت توبنس غرفتها ، لاحظت أن يدا عبثت بقبعاتها، فتلفتت حولها في الحجرة فأكدت أن العبث كان في كل مكان.. انهم يبحثون عن شيء لن يجدوه وتركت الخطاب الي وصلها صباح اليوم على منضدة الزينة، ثم خرجت من المنزل ونظرت في ساعتها .. كانت العاشرة، وقالت لنفسها : لا يزال هناك متسع من الوقت ولابد من النجاح ...
* * *
نزلت توبنس في محطة يارو فوجدت سيارة تنتظرها يقودها شاب قال لها:
- تفضلي يا سيدتي..
وبعد أن سارت السيارة مسافة قصيرة وسط الاحراش توقفت ونزلت توبنس فوجدت أنتوني مارسدون في انتظارها فقال لها على الفور :
- ان برسفورد بخير .. وقد خلصناه من الأعداء.. اذ كان قد وقع اسيرا في يدهم ، ولا يمكن أن تريه في الوقت الحاضر، لأسباب خارجة عن ارادتنا .. ثم ان هناك مهمة يجب انهاؤها ..
ونظرت توبنس الى كومة من القماش ملقاة بعيدا فسألت:
- ما هذا ؟
- انه أمر في غاية الخطورة.. انه بقايا باراشوت نزلت به فتاة قبض عليها رجالنا وكانت ترتدي ثياب الممرضات.. وعرفنا انها مكلفة بمهمة سرية ...
- ثم ماذا ؟
- اذا أحببت فانك تستطيعين ان تحلي محلها وتقومي بدورها لتكتشفي كنه مهمتها ..
- انني على استعداد ..
- ما أقوى أعصابك يا مسز برسفورد
- ماذا علي أن أفعل؟
- ان التعليمات التي معها ليست واضحة .. ولكنا وجدنا ورقة مكتوبة بالألمانية في جيب الفتاة.. جاء فيها .. " دوسبري " إلى " ليزريارو " حتى تقاطع الطريق .. ثم شارع " آسال " رقم 14 .. الدكتور " بينيون " ..
ونظرت توبنس الى حيث أشار مارسدون ، فرأت تقاطع الطريق .. وقال الشاب:
- هناك.. ستسيرين في ذلك الطريق نحو خمسة أميال على الأقل..
- ان السير على الأقدام رياضة جميلة ، وأرجو أن يقدم لي الدكتور بينيون طعام الغذاء ..
- هل تتكلمين الألمانية يا مستر برسفورد ؟
- بضع جمل فقط .. لكني سأصر أن يكون الحديث بالإنجليزية وأقول ان تعليماتي تقرر ذلك ..
- انك تخاطرين ..
- هراء! من يتخيل أنني بديلة لتلك التي هبطت بالبراشوت ..
- لقد حسبنا حساب كل ما د ينتظر فحجزنا الرجلين اللذين قبضا على الممرضة الألمانية رغم أنهما من رجالنا زيادة في الحيطة ، والآن سنبدأ في عملية التنكر ..
وبعد نصف ساعة ظهرت توبنس وقد تغير شكلها وتقدمت بها السن عشر سنوات واعرض فكاها . نتيجة لقطع المطاط التي وضعت داخل فمها لتتخذ هيئة الممرضة الألمانية فقال توني مارسدون:
- ستعلمين منه بالتحديد أين ومتى وكيف سيقع الغزو .. ؟
- لا تخشى علي يا طفلي العزيز.
ووقفت توبنس أمام المنزل رقم 14 شارع آسال فلاحظت من لوحة الدكتور بينيون انه طبيب أسنان ، كما لاحظت من طرف عينيها أن توني مارسدون كان يراقبها من بعيد في سيارته، فأدركت أن سيرها على الأقدام كان له حكة .. فان طائرة كانت تتبعها طوال سيرها وفهمت أن العدو كان حريصا على عدم ركوبها في سيارة حتى لا تحدث أي متاعب كانت..
صعدت توبنس درجات المنزل حتى وجدت باب العيادة.. فضغطت الجرس وظهر وراء الباب وجه سيدة انجليزية عجوز..
- هل الدكتور بينيون موجود .. ؟
- هل أنت الممرضة إيلتون ..
- نعم ..
- نعم ...
- إذن .. اتبعيني ..
ودخلت توبنس .. فقالت السيدة المسنة بعد أن أغلقت الباب :
- أرجو أ، تنتظري .. ريثما أخبر الدكتور ..
وانتظرت توبنس ان يفتح الباب ويظهر لها الدكتور بينيون .. ترى من يكون.. هل هو شخص غريب عنها ؟ أو شخص سبق أن رأته ؟ وماذا يحدث لو كان الدكتور بينيون هو الشخص الذي تفكر فيه ؟
وفتح الباب .. وخرج منه رجل لم يخطر على بال توبنس مطلقا ..
الكوماندوز " هايدوك " ..!
:: الفصل الرابع عشر ::
تمالكت توبنس أعصابها وتناست إلى حين .. الدور الذي استنتجت أن الكوماندوز هايدوك قد لعبه في اختفاء تومي وكان لابد لها أن تتمالك أعصابها فعليها أن تعمل المستحيل حتى لا يكتشف دورها .. وقفت على قديمها .. كأي امرأة ألمانية تواجه رئيسها ..
- اذن حضرت ..
- نعم .. انني الممرضة " إيلتون " ..
وابتسم هايدوك كما لو قد سمع دعابة وقال :
- عظيم .. عظيم .. أيتها الممرضة ايلتون .. تفضلي بالجلوس ..
- أعتقد أنه علي أن أتلقى منك تعليمات ..
- أتعلمين اليوم ؟
- انه الرابع ..
- اذن أنت تعلمين ذلك .. وعقد ما بين حاجبيه ..
فقالت توبنس بعد فترة سكون :
- أرجو أن تحدثني عما يجب علي ان أفعله ..
- كل شيء في أوانه يا عزيزتي .. ثم قال بعد لحظة :
- قد سمعت بلا شك عن سان سوسي ..
- لا ..
- ألم تسمعي عنها ؟
- كلا ..
فابتسم الكوماندوز ابتسامة غريبة ..
- اذن أنت لم تسمعي عن سان سوي ! ان هذا ليدهشني كثيرا فاني أعلم أنك كنت تقيمين هناك طوال الشهر الماضي أليس كذلك يا مسز بلنكنسوب ؟
- اني لا أفهم ما تعني يا دكتور بينيون .. لقد هبطت بالبراشوت صباح اليوم ..
- آه .. انني لست الدكتور بينيون يا عزيزتي .. الدكتور بينيون هو طبيبي وقد سمح لي باستعارة عيادته بعض الوقت ..
- حقا!!؟
- حقا يا مسز بلنكنسوب .. أو لعلك تفضلين أن أخاطبك باسمك الحقيقي يا مسز برسفورد .. لقد انكشفت اللعبة أخيرا .. وقال العنكبوت للذبابة .. " هذا أنت قد وقعت في خيوطي " وأحب أن أنبهك على نصيحة هامة .. هي ألا تصيحي فتزعجي الجيران .. فستقلين قبل أن تفتحي فاك.. ثم لا تنسي أن هذه عيادة طبيب أسنان، وكثيرا ما سمع الجيران أصوات المرضى ..
- يخيل إلي أنك فكرت في كل شيء .. لكن هلا حسبت حساب ان لي أصدقاء بالخارج يعرفون أين أنا؟
- أوه .. هل تفكرين في الشاب " أنتوني مارسدون " .. يؤسفني يا مسز برسفورد أن أصارحك بأن أنتوني من أنشط الشباب الذين يعملون تحت أمرتنا ، وقد استطاع بلباقته – بعد أن عرف عنك كل شيء من ابتك – أن يجعلك تؤمنين بقصة البراشوت بكل بساطة ..
- لست أفهم معنى هذا ..
- حقا .. لقد عملنا على أن يفقد أصدقاؤك أثرك اذا تتبعوه ، وقد يصلون إلى محطة يارو فيعلمون أنك ركبت في سيارة مع أحد الشباب.. أما الممرضة التي لا تشبهك من قريب أو بعيد .. والتي سارت على قدميها بين الساعة الواحدة والثانية في مدينة ليبرزيارو فإن أحدا لن يدرك أن ثمة علاقة بينها وبين اختفائك ..
- وبعد ؟
- انني معجب بأعصابك .. بل أنا شديد الاعجاب ، ويحززني استعمال الشدة معك ، ولكني مضطر لأن أعلم بالضبط كل ما اكتشفت في سان سوي .. واني أنصحك .. ولعلك تدركين ما قد يقود إليه عنادك..
فنظرت إليه توبنس بازدراء .. فاستطرد :
- نعم .. انني أقدر ما تتميزين بع من ثبات وعزم ولكن .. ماذا عن الوجه الآخر للصورة ؟
- ماذا تعني؟
- اني أقصد زوجك.. " توماس برسفورد ".. الذي كان يقيم إلى عهد قريب في سان سوسي تحت اسم مستر ميدوز .. والذي يقيم الان في قبو منزلي ..
- تومي .. لا أصدق ذلك ..
- بل يجب أن تصدقيه .. فان تومي العزيز كان ولا يزال في قبضة يدي ، فإذا أجبت عن اسئلتي أنقذته.. أما اذا رفضت فستسير الأمور على النحو المرسوم لها.. اذ سيقتل ويقذف بجثته في أعماق اليم ..
- ماذا تريد أن تعرف؟
- لحساب من تعملين ؟ وما وسيلتك للاتصال بهم ؟ وما المعلومات التي أبلغتها لهم حتى هذه اللحظة ؟ وبعبارة أخرى كل ما تعلمين ..
فهزت توبنس كتفيها وقالت :
- أستطيع أن أقول لك من الأكاذيب ما يحلو لي ..
- كلا ، انك لا تستطيعين ذلك .. لأنني سأبدأ بفحص كل ما تقولين .. ثم لا تنسي يا سيدتي العزيزة انني أقدر مشاعرك نحو هذا العمل .. ثم انني أقدر كل مجهوداتك أنت وزوجك .. ونحن في حاجة إلى أناس من امثالكما لبناء الدولة الجديدة التي ستقوم على أنقاض هذه الدولة الغبية ..
نظرت توبنس اليه ثم راحت تبحث عن كلمة ترد بها عليه ، وقالت دون وعي منها :
- أحلام ساندريلا .. أحلام ساندريلا ...!
وأرادت بعبارتها التهكمية هذه أن تشبه آمال النازيين بقصة الاطفال المعروفة التي رأت كتابها مع الطفلة بتي .. ولكنها دهشت عندما وجدت وقع هذه الكلمات على هايدوك كالسحر بل انها فزعت لما رأته على وجهه، اذ قفز واقفا مقتم الوجه ، ورأت فيه توبنس فجاة ما رآه تومي من قبل .. الضابط البروسي الفظ الذي اخذ يسبها باللغة الألمانية بأوقح الألفاظ .. ثم قال بالإنجليزية :
- أيتها المخبولة ، انك لا تدركين نتائج اجابتك هذه .. لقد حكمت بالإعدام على زوجك وعلى نفسك .. ثم صاح بأعلى صوته :
- آنا ..
فدخلت المرأة التي فتحت الباب لتوبنس فدفع هايدوك مسدسا في يدها وقال لها :
- راقبيها ولا تترددي في اطلاق النار اذا احتاج الأمر ..
وخرج كالعاصفة من الباب وأغلقه وراءه .. فقالت توبنس لـ آنا :
- أ ستقتلينني حقا؟
- تحاولي أن تخدعينني .. لقد قتل ولدي أونو في الحرب الماضية وكان سني حينئذ ثمانية وثلاثين عاما وقد اصبحت في الثانية والستين الان ، ورغم ذلك ..
وقد ذكر توبنس وجه هذا المرأة تلك المرأة البولندية واندا بولونسكا والأمومة.. بل احساس الأم حين تفقد طفلها .. ولمعت فكرة في رأس توبنس ... تلك الفكرة التي حاولت طويلا أن تتذكرها عن سليمان الحكيم ..
وفتح الباب ودخل الكوماندوز هايدوك .. وقال في غضب ..
- أين هي ، أين أخفيتها ؟
فحملقت فيه توبنس ، فان سؤاله لم يكن له معنى في نظرها لأنها لم تأخذ شيئا ولم تخف شيئا.. وقال هايدوك لـ آنا :
- اخرجي ...
فسلمته المرأة المسدس وخرجت .. وجلس هايدوك على أحد المقاعد وكان واضحا انه يبذل جهدا جبارا ليتمالك أعصابه .. ثم قال :
- لن تستطيعي الانتفاع بها .. فأنت هنا تحت رحمتي .. ولدي من الوسائل ما أحمل به الناس على الكلام، وستضطرين تحت ضغط هذه الوسائل أن تعترفي لي بالحقيقة ماذا فعلت بها ؟
ورأت توبنس أن هذه فرصتها الوحيدة للمساومة لو استطاعت أن تعرف ما " هذه " التي خبأتها.. فقالت في حذر :
- كيف عرفت أنها في حوزتي؟
- من كلامك أيتها الغبية .. واني أعلم أنها ليست معك الان ، فقد غيرت ملابسك. فقالت توبنس :
- افترض انني أرسلتها بالبريد إلى بعضهم ..
- لا تكوني غبية .. فان كل ما يرسل بالبريد يفحص واني واثق انك لم ترسليها بالبريد .. وهناك وسيلة وحيدة .. وهي انك خبأتها في سان سوسي هذا الصباح قبل خروجك.. واني أسمح لك بثلاث دقائق لتقولي اين خبأتها ..
ووضع ساعته على المنضدة وقال :
- ثلاث دقائق يا مسز توماس برسفورد ..
وأخذت دقات الساعة تسمع في الغرفة .. وجلست توبنس صامتة دون أن يبدو على وجهها أي تغيير ، وانكشف لها في تلك الحظات كل ما كان خافيا عليها ..
وقال هايدوك فجاة :
- بقيت لك عشر ثوان ..
فأخذت تراقبه كما لو كانت في حلم وقد رفع مسدسه في يده وهو يعد .. واحد . اثنين .. ثلاثة .. اربعة .. خمسة ..
وعندما وصل العد الى ثمانية .. انطلقت الرصاصة . وانقلب بمقعده ..
لم يكن قد لاحظ تحت تأثير حالته العصبية مراقبته للساعة أن الباب كان يفتح ببطء .
ووقفت توبنس على قدميها واتجهت مسرعة نحو الرجال الذين دخلوا من الباب وصاحت :
- مستر جرانت.. لقد تخلصنا الان من ( ن ) ...
- نعم .. نعم يا عزيزتي .. وأنت بخير الان ..
- اذن أسرعوا فليس لدينا وقت .. ألديكم سيارة هنا ؟
- نعم ..
- هيا الى سان سوي .. حالا .. قبل ان يتصل به أحد هنا ولا يجد ردا ..
وأخذ عداد السرعة في السيارة يتحرك نحو النهاية .. ولم ينطق أحد من راكبي السيارة بحرف واحد فيما عدا توبنس التي قالت :
- تومي ..
فأجابها جرانت :
- بخير ..
وأخيرا وصلت السيارة فقفزت توبنس وتبعها جرانت وأخذا يرتقيان الدرج في سرعة جنونية .. فلمحت توبنس الادراج في غرفتها مقلوبة رأسا على عقب ، فمرت بها ودخلت الى غرفة آل كايل وسارت الى الفراش ورفعت الاغطية ثم استدارت الى مستر جرانت وقدمت اليه أحد كتب الاطفال وقالت له :
- ها أنت تجد كل ما تريد في هذا الكتاب ..
وسمعا في هذه اللحظة صوتا يقول :
- ماذا يجري هنا ؟
والتفتا نحو الباب فرأيا مسز سبروت واقفة به فقالت توبنس :
- و الان أقدم لك ( م) .. نعم مسز سبرون .. كان يجب أن أعرف ذلك منذ حين ..
--------------------------------------------------------------------------------
:: الفصل الخامس عشر ::
جلس تومي و مستر جرانت و ألبرت يحتسون الشراب وقد وقفت توبنس تقول :
- كان يجب ان اعرف ذلك منذ حين..
فقال تومي :
- حدثينا بما عندك ..
- عليك أن تبدأ أنت أولا..
- ليس لدي كثير .. ان حادثا عارضا هيأ لي الكشف عن سر الجهاز اللاسلكي المخبأ في حمام استراحة المهربين.. وقد خيل الي انني خرجت بهذا السر .. ولكن هايدوك كان أحرص عليه مني ..
فقاطعته توبنس :
- فاتصل بمسز سبروت تليفونيا ، فانتظرتك بباب الفيلا ومعها مطرقة .. وقد غابت عن لعب الورق ثلاث دقائق فقط, ولاحظت فعلا انها كانت تلهث لما عادت ، ومع ذلك فلم أشك فيها مطلقا ..
فقال تومي :
- يأتي بعد ذلك دور ألبرت ، فقد اكتشف الرسالة اللاسلكية التي بعثتها إليه من أنفي فاتصل بمستر جرانت ، وحضر كلاهما في تلك الليلة واتفقنا على أن أبقى حيث أنا ، حتى يتاح لنا القبض على الجماعة التي وكل إليها أمر قتلي وقذف جثتي في البحر ..
فقال مستر جرانت :
- وعندما خرج هايدوك من استراحة المهربين احتل رجالي المكان..
فقالت توبنس :
- كنت أعني الجميع اذ انني شككت في كل النزلاء ما عادا مسز سبروت ، وعندما استمعت الى ذلك الحديث التليفوني عن الرابع من الشهر كان هناك ثلاثة أشخاص في المنزل .. شككت في اثنين هما المسز برينا والمسز أوروك، ثم اتفقت مع ألبرت على ما يفعل.. وفجأة ظهر أنتوني مارسدون على المسرح وقد أقنعني في أول الأمر أنه على علاقة بابنتي ديبورا ولكني تذكرت أنني لم أره يزورنا من قبل ورغم أنه أظهر لي أنه يعلم كل شيء عن عملي في سان سوسي فقد صدق أن تومي في اسكتلندا فرأيت أن ذلك من الغرابة بمكان اذ انه ليس هناك من يعلم حقيقة عملي في سان سوسي سوى مستر جرانت الذي كان قد اخبرني أن رجال الطابور الخامس منتشرون في كل مكان ، فصممت على أن أكشف حقيقة مارسدون هذا، فقلت له شيئا عن العمة " جراسيا " وصديقتي " بنلوب بلين " باعتبارهما من الوسائل التي يتصل بي تومي بها.. وقد نجحت الخطة فقد وصلني خطاب من صديقتي بنلوب بلين المزعومة فتأكدت أن لعبتي قد جازت على مارسدون ولم يكلفني اتمام خطتي سوى حديثي لحائكة الثياب بالتليفون التي ألغيت معها الموعد المتفق عليه ولم يكن في الواقع حديثي هذا إلا مع ألبرت الذي فهم كيف يتصرف من ناحيته.. ثم سرت إلى نهاية الشوط وأنا أعلم أن مستر جرانت على علم بأنني في طريقي إلى يارو . كما أخبره ألبرت ..
فقال مستر جرانت :
- وقد أدينا واجبنا على خير وجه.. فقد تبعناك خطوة خطوة .. دون أن يشعر الأعداء حتى وصلت الى عيادة الطبيب، وقد عرفنا كيف نحتال على تلك المرأة الألمانية .. فدخلنا في الوقت المناسب ..
فقالت توبنس :
- كنت أعلم أنكم آتون وكل ما فعلت أنني أطلت الوقت مع هايدوك.. والغريب في الأمر أن المعضلة كلها انحلت في تلك اللحظات .. وعندما قلت " أحلام ساندريلا " انقلب كيان هايدوك وتبين لي ان ذلك لم يكن بسبب سخافة ما قلت .. ولكن لأن وراء تلك الكلمات سرا خطيرا بالنسبة إليه.. ثم ما بدا من المرأة الالمانية آنا ذكرني بما بدا على وجه واندا بولونكا البولندية ، وعندئذ تذكرت سليمان الحكيم واكتشفت الأمر كله.. هو ان بتي لم تكن ابنة مسز سبروت ..
فصاحوا جميعا .. وكيف ذلك ..!
فقالت توبنس :
- أتذكرون المرأتين اللتين ذهبتا إلى سليمان بطفل وكل منهما تدعي أنه ولدها، وكيف أن سليمان حكم بقسمة الطفل بينهما ، فرضيت الأم الزائفة بذلك، ولكن الام الحقيقية، فضلت أن تأخذه الأخرى على أن تراه يذبح.. والذي حدث في تلك الليلة أن قتلت مسز سبروت المرأة الأخرى.. وقلتم جميعا حينئذ.. انها معجزة دامية .. انها معجزة الغريزة. فقد كان من الجائز جدا أن تصاب الطفلة.. والواقع أنه لو كانت الطفلة ابنة مسز سبروت ما خاطرت بإطلاق النار ومعنى هذا ان بتي لم تكن ابنتها ..
- ولكن كيف ..!
- لأن " واندا بولونكا " هي أم بتي الحقيقية وتذكرت احساسي بسبب رؤيتي لوجهها عندما رأيتها أول مرة .. كان الشبه بينها وبين بتي هو السبب في ذلك الاحساس..
- يا للمسكينة .. لقد سمحت لمسز سبروت بتبني طفلتها فلاقت حتفها ..
- ولكن لماذا أرادت مسز سبروت أن تتبنى طفلة.. ؟
- لسبب بسيط.. فان أحدا لم يشك اطلاقا في مسز سبروت.. اذ لم يحدث في تاريخ الجاسوسية .. أن كانت هناك جاسوسة تصحب معها طفلة .. ولا شك أنكم تذكرون أن مسز سبروت رفضت استدعاء البوليس اذ كانت تعلم انها رغم ما دفعت من نقود لتلك المرأة، لم تستطع ارضاءها وأدركت أن الأم هي التي استعادت طفلتها، وخشيت أن يكتشف البوليس الحقيقة، فعندت الى كتابة تلك الرسالة التي زعمت انها وجدتها في غرفتها، ثم تحايلت على استدعاء الكوماندوز ليساعدها في محنتها.. ثم حدث ما تعرف . أما عن عبث بتي بأربطة حذائي فلا شك انها كانت ترى مسز سبروت تفعل ذلك بالمياه بواسطة الأربطة المشبعة بالسم ، ولم يكن لكارل يد في تلك الجريمة، اذ لا بد ان رأت مسز سبروت بتي تقلدها في غرفتي فزيفت أدلة ضد كارل وقبض عليه اذ وجدت بعض الاربطة المسممة في حجرته وفي معمله..
وقال مستر جرانت:
- وهناك فائدة أخرى من وجود الطفلة مع مسز سبروت.. لقد جعلت من أقاصيصها القديمة سجلا لأعمال الجاسوسية وحرمت على الطفلة أن ت لعب بها بحجة قذارتها.. لقد كشف الاخصائيون في كتاب " أحلام ساندريلا " معلومات هامة غير الاسطول تبت بحبر سري كذلك بقية الكتب .. ولقد كان الفضل كله لك يا سيدتي ..
بقيت بعد ذلك مفاجأة يسرني أن أخبركم بها ..
هي أن كارل فون دينيم ليس كارل فون دينيم على الاطلاق . انه صديق لصاحب ذلك الاسم الذي قتله النازي .. ومنذ سنوات كلفنا أحد رجالنا بمهمة في ألمانيا فتعرف على كارل فون دينيم الحقيقي وقد عرف أسرار عائلته فما قتل كارل الحقيقي اتخذ رجلنا شخصيته وانتحل اسمه اتماما للمهمة المكلف بها، وقبل الحرب مباشرة عاد الى انجلترا والتحق بالعمل في معمل الكيميائية منتحلا شخصية كارل فون دينيم اتماما لمهمتنا .. وقد عرفت شيلا أخيرا وقبلت أن تتزوج به عندما طلب يدها ...