وأهل السنة والجماعة: يرون الاستثناء في الإيمان، أي القول (أنا مؤمن إن شاء الله) ولا يجزمون لأنفسهم بالإيمان، وذلك من شدة خوفهم من الله، وإثباتهم للقدر، ونفيهم لتزكية النفس؛ لأن الإيمان المطلق يشمل فعل جميع الطاعات، وترك جميع المنهيات، ويمنعون الاستثناء إذا كان على وجه الشك في الإيمان. والأدلة على ذلك كثيرة في الكتاب والسنة وآثار السلف، وأقوال العلماء، قال الله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ} [الكهف: 23-24]
{فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]و((كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول حين يدخل المقبرة: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية)) .وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من شهد على نفسه أنه مؤمن؛ فليشهد أنه في الجنة) .وقال جرير: سمعت منصور بن المعتمر، والمغيرة، والأعمش والليث، وعمارة بن القعقاع، وابن شبرمة، والعلاء بن المسيب ويزيد بن أبي زياد وسفيان الثوري، وابن المبارك، ومن أدركت: (يستثنون في الإيمان، ويعيبون على من لا يستثني) .وسئل الإمام أحمد بن حنبل عن الإيمان؟ فقال: (قول وعمل ونية). قيل له: فإذا قال الرجل: مؤمن أنت؟ قال: (هذه بدعة). قيل له: فما يرد عليه؟ قال: يقول: (مؤمن إن شاء الله) .
الوجيز في عقيدة السلف الصالح لعبد الحميد الأثري - ص115
مسألة الاستثناء في الإيمان وهو قول القائل: (أنا مؤمن إن شاء الله) فمرجئة الفقهاء يمنعون الاستثناء في الإيمان؛ لأن الإيمان شيء واحد هو التصديق، فيقولون: أنت تعلم أنك مصدِّق بالقلب فكيف تقول: أنا مؤمن إن شاء الله. إذاًََ أنت تشك في إيمانك، ولهذا يسمون المؤمنين الذين يستثنون في إيمانهم الشكَّاكة، فأنت تعلم في نفسك أنك مصدِّق كما تعلم أنك قرأت الفاتحة وكما تعلم أنك تحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وتبغض اليهود فكيف تقول: إن شاء الله، بل قل: أنا مؤمن؛ اجزم ولا تشك في إيمانك. وأما جمهور أهل السنة فإنهم يفصِّلون فيقولون: إن قال القائل: (أنا مؤمن إن شاء الله) يقصد الشك في أصل إيمانه فهذا ممنوع؛ فأصل الإيمان التصديق، وأما إن نظر إلى الأعمال والواجبات التي أوجبها الله والمحرمات التي حرمها الله ورأى أن شعب الإيمان متعددة والواجبات كثيرة فالإنسان لا يزكِّي نفسه ولا يقول بأنه أدَّى ما عليه؛ بل يتهم نفسه بالتقصير ويزري على نفسه فإذا قال: (أنا مؤمن إن شاء الله) فإن الاستثناء راجع إلى الأعمال، فهذا لا بأس به بل حسن أن يقول: إن شاء الله. وكذلك إذا أراد عدم علمه بالعاقبة وأن العاقبة لا يعلمها إلا الله فلا بأس بالاستثناء، وكذلك إذا أراد التبرك بذكر اسم الله فلا بأس.
أسئلة وأجوبة في الإيمان والكفر لعبدالعزيز الراجحي
أهل السنة والجماعة: يرون جواز الاستثناء في الإيمان في أحوال، وذهب إلى هذا جمهور أئمتهم من السلف والخلف.
أي: قول الإنسان عن نفسه إذا سئل هل (أنت مؤمن؟) فيقول بإجابة ليس فيها ما يوهم الجزم والقطع بكمال الإيمان:
(أنا مؤمن إن شاء الله) أو (أرجو... ) أو نحو ذلك.
لأن الذي يقول: إن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص؛ ينبغي عليه إذا قال (أنا مؤمن) أن يستثني؛ لأنه لا يستطيع أن يجزم بأن معه كمال الإيمان، وإن جزم! فقد زكى نفسه؛ لأن الإيمان شامل للاعتقادات والأقوال والأعمال.
وأهل السنة والجماعة: يرون الاستثناء في الإيمان؛ لشدة خوفهم من الله تعالى، وإثباتاً لأقداره، ونفياً لتزكية أنفسهم، لا شكاً فيما يجب عليهم الإيمان به، ولكن خوفاً أن لا يكونوا قاموا بحقائقه، ورجاء أن يأتوا بواجباته وكمالاته.
ويمنعون الاستثناء إذا كان على وجه الشك في الإيمان؛ لأن الشك في ذلك كفر؛ بل يقصدون من ذلك: نفي الشك في إيمانهم من جهة، وعدم الجزم بكماله من جهة أخرى.
لإن الإيمان النافع هو المتقبل عند الله تعالى، إذ أن من قام بالعمل الصالح وأتى به، لا يدري هل يقبل منه عمله أم لا؟ فالاستثناء هنا معناه عدم العلم بالعاقبة.
فأهل السنة والجماعة لا يجزمون لأنفسهم بالإيمان المطلق؛ لأن الإيمان يشمل فعل جميع الطاعات، وترك جميع المنهيات، ولن يستطيع أحد أن يدعي لنفسه أنه جاء بذلك كله على التمام والكمال، وإن قال؛ فقد شهد لنفسه بأنه من الأبرار المتقين، وأولياء الله الصالحين! وضمن لنفسه دخول الجنة ابتداءً، وهذا من التألي على الله تعالى – والعياذ بالله – ولا يقولها مسلم عاقل.
وهم بعيدون عن تزكية أنفسهم، ولا أعظم للنفس تزكية وراء الشهادة لها بالإيمان الشامل لكل شعبة.
الاستثناء – عندهم – في الأمور المتيقنة غير المشكوك فيها؛ فما كان مقطوعاً به؛ فلا يجوز الاستثناء.
ومن حكمتهم وتأدبهم مع الله – جل وعلا – يعلقون الأمور كلها بمشيئته سبحانه وتعالى.
وهم يفضلون الاستثناء ولم يوجبوه؛ لما في تركه من الإيهام بتزكية النفس، والشهادة لها بالكمال.
ويكرهون تركه ولم يحرموه؛ وأجازوه على معنى الدخول في الإيمان، لا على كماله؛ فهم يجوزون الأمرين لعدم ورود الدليل على التحريم، أو الوجوب، والله أعلم.
وهم يرون أن السؤال: (هل أنت مؤمن؟) بدعة أحدثها أهل البدع من المرجئة؛ ليحتجوا بها على قولهم في الإيمان: إنه التصديق، وإن العمل ليس من الإيمان؛ خلافاً لعقيدة السلف الصالح.
والأدلة على جواز الاستثناء كثيرة في الكتاب، والسنة، وآثار السلف الصالح، وأقوال الأئمة والعلماء منها:
قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ} [الكهف: 23-24]
وقوله: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27]
وقوله: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]
وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60] وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول حين يدخل المقبرة: ((السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غداً مؤجلون. وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد)) .وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من شهد على نفسه أنه مؤمن؛ فليشهد أنه في الجنة) .وقال رجل عند ابن مسعود رضي الله عنه: (أنا مؤمن). فقال ابن مسعود: (أفأنت في الجنة؟) فقال: (أرجو). فقال ابن مسعود: (أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى؟) .وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: (أذهب إلى حديث ابن مسعود في الاستثناء في الإيمان؛ لأن الإيمان قول وعمل، والعمل الفعل، فقد جئنا بالقول، ونخشى أن نكون قد فرطنا في العمل؛ فيعجبني أن نستثني في الإيمان، نقول: أنا مؤمن إن شاء الله) .وقال الوليد بن مسلم: سمعت أبا عمرو – يعني الأوزاعي – ومالك بن أنس، وسعيد بن عبد العزيز؛ لا ينكرون أن يقول: أنا مؤمن، ويأذنون في الاستثناء أن أقول: (أنا مؤمن إن شاء الله) .وقال الإمام يحيى بن سعيد القطان رحمه الله: (ما أدركت أحداً من أصحابنا ولا بلغنا إلا على الاستثناء) ...وقال الإمام إبراهيم النخعي رحمه الله: (سؤال الرجل الرجل: أمؤمن أنت؟ بدعة) .وقال الإمام سفيان بن عيينة رحمه الله: (إذا سئل: أمؤمن أنت؟ إن شاء لم يجبه، أو يقول: سؤالك إياي بدعة، ولا أشك في إيماني، ولا يعنف من قال: إن الإيمان ينقص، أو قال: مؤمن إن شاء الله، وليس يكره وليس بداخل في الشك) .
وقال الإمام الآجري رحمه الله: (من صفة أهل الحق ممن ذكرنا من أهل العلم: الاستثناء في الإيمان، لا على جهة الشك – نعوذ بالله من الشك في الإيمان – ولكن خوف التزكية لأنفسهم من الاستكمال للإيمان، لا يدري أهو ممن يستحق حقيقة الإيمان أم لا؟...هذا طريق الصحابة والتابعين بهم بإحسان، عندهم أن الاستثناء في الأعمال لا يكون في القول والتصديق في القلب، وإنما الاستثناء في الأعمال الموجبة لحقيقة الإيمان، والناس عندهم على الظاهر مؤمنون، به يتوارثون، وبه يتناكحون، وبه تجري أحكام ملة الإسلام، ولكن الاستثناء منهم على حسب ما بيناه لك، وبينه العلماء من قبلنا، روي في هذا سنن كثيرة، وآثار تدل على ما قلنا) .وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إن الإيمان المطلق؛ يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك المحرمات كلها؛ فإذا قال الرجل: أنا مؤمن بهذا الاعتبار فقد شهد لنفسه بأنه من الأبرار المتقين القائمين بفعل جميع ما أمروا به، وترك كل ما نهو عنه؛ فيكون من أولياء الله، وهذا من تزكية الإنسان لنفسه، وشهادته لنفسه بما لا يعلم، ولو كانت هذه الشهادة صحيحة؛ لكان ينبغي له أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال، ولا أحد يشهد لنفسه بالجنة؛ فشهادته لنفسه بالإيمان؛ كشهادته لنفسه بالجنة إذا مات على هذه الحال، وهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون، وإن جوزوا ترك الاستثناء بمعنى آخر) .وقال: (والمأثور عن الصحابة، وأئمة التابعين، وجمهور السلف، وهو مذهب أهل الحديث، وهو المنسوب إلى أهل السنة: أن الإيمان قول وعمل؛ يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وأنه يجوز الاستثناء فيه) .
الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة عبدالله بن عبدالحميد الأثري – ص101
باب ذكر الاستثناء في الإيمان من غير شك فيه
قال محمد بن الحسين رحمه الله: من صفة أهل الحق ممن ذكرنا من أهل العلم: الاستثناء في الإيمان، لا على جهة الشك، نعوذ بالله من الشك في الإيمان، ولكن خوف التزكية لأنفسهم من الاستكمال للإيمان، لا يدري أهو ممن يستحق حقيقة الإيمان أم لا، وذلك أن أهل العلم من أهل الحق إذا سئلوا: أمؤمن أنت ؟ قال: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار، وأشباه هذا، والناطق بهذا، والمصدق به في قلبه مؤمن، وإنما الاستثناء في الإيمان لا يدرى أهو ممن يستوجب مانعت الله عز وجل به المؤمنين من حقيقة الإيمان أم لا؟ هذا طريق الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان، عندهم أن الاستثناء في الأعمال، لا يكون في القول، والتصديق بالقلب ؟ وإنما الاستثناء في الأعمال الموجبة لحقيقة الإيمان، والناس عندهم على الظاهر مؤمنون، به يتوارثون، وبه يتناكحون، وبه تجري أحكام ملة الإسلام، ولكن الاستثناء منهم على حسب ما بيناه لك، وبينه العلماء من قبلنا.
روي في هذا سنن كثيرة، وأنا أزيدك على ما قلنا.
قال الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ}.وقد علم الله عز وجل أنهم داخلون، وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم المقبرة فقال: ((السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)) ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله)).
وروي أن رجلاً قال عند عبد الله بن مسعود: أنا مؤمن، فقال ابن مسعود: أفأنت من أهل الجنة ؟ فقال: أرجو، فقال ابن مسعود: أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى؟.
وقال رجل لعلقمة: أمؤمن أنت ؟ قال: أرجو إن شاء الله. قال محمد بن الحسين رحمه الله تعالى: وهذا مذهب كثير من العلماء، وهو مذهب أحمد بن حنبل. واحتج أحمد بما ذكرنا، واحتج بمساءلة الملكين في القبر للمؤمن ومجاوبتهما له فيقولان له: على اليقين كنت، وعليه مت، وعليه تبعث يوم القيامة إن شاء الله تعالى، ويقال للكافر والمنافق: على شك كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله.
حدثني أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي قال: حدثنا أبو بكر الأثرم قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل سئل عن الاستثناء في الإيمان ما تقول فيه ؟
قال: أما أنا فلا أعيبه. قال أبو عبد الله: إذا كان يقول أن الإيمان: قول وعمل، واستثناء مخافة واحتياطاً، ليس كما يقولون على الشك، أفما تستثني للعمل، قال الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ}، فهذا استثناء بغير شك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله)) قال: هذا كله تقوية للاستثناء في الإيمان.
وحدثنا جعفر الصندلي قال: حدثنا الفضل بن زياد قال: سمعت أبا عبد الله يعجبه الاستثناء في الإيمان ؟ فقال له رجل: إنما الناس رجلان: مؤمن وكافر ؟ فقال أبو عبد الله: فأين قوله تعالى: وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم.
قال: سمعت أبا عبد الله يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما أدركت أحداً إلا على الاستثناء.
قال: وسمعت أبا عبد الله مرة أخرى يقول: سمعت يحيى يقول: ما أدركت أحداً من أهل العلم، ولا بلغني إلا الاستثناء، قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: سمعت سفيان بن عيينة إذا سئل: أمؤمن أنت ؟ إن شاء لم يجبه، وإن شاء قال: سؤالك إياي بدعة، ولا أشك في إيماني، ولا يعنف من قال: إن الإيمان ينقص، أو قال: إن شاء الله، ليس يكرهه، وليس بداخل في الشك قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: إذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله فليس هو بشاك، قيل له: إن شاء الله: أليس هو شك ؟ فقال: معاذ الله، أليس قد قال الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ}، وفي علمه أنهم يدخلونه.
وصاحب القبر إذا قيل له: وعليه تبعث إن شاء الله فأي شك ههنا ؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)).
وسمعت أبا عبد الله يقول: حدثنا وكيع قال: قال سفيان: الناس عندنا مؤمنون في الأحكام والمواريث، ولا ندري كيف هم عند الله عز وجل ؟ ونرجو أن نكون كذلك.
وحدثنا ابن مخلد قال: حدثنا أبو داود قال: سمعت أحمد قال: سمعت سفيان يقول: إذا سئل أمؤمن أنت ؟ إن شاء لم يجبه، أو يقول له: سؤالك إياي بدعة، ولا أشك في إيماني، وقال: إن شاء الله ليس يكرهه، وليس بداخل في الشك.
قال: وسمعت أحمد قال: سمعت يحيى بن سعيد قال: ما أدركت أحداً من أصحابنا، ولا بلغني إلا على الاستثناء، وقال: قال يحيى: الإيمان: قول وعمل.
وسمعت أحمد قال: حدثنا وكيع قال: قال سفيان: الناس عندنا مؤمنون في الأحكام والمواريث، فنرجو أن نكون كذلك، ولا ندري ما حالنا عند الله عز وجل.
وسمعت أحمد قال: قال يحيى بن سعيد: كان سفيان ينكر أن يقول: أنا مؤمن.
وحدثنا جعفر الصندلي قال: حدثنا الفضل بن زياد قال: سمعت أبا عبد الله يقول: حدثني مؤمل قال: حدثنا حماد بن زيد قال: سمعت هشاماً يذكر، قال: كان الحسن ومحمد يهابان أن يقولا: مؤمن، ويقولان: مسلم.
وحدثنا أبو نصر محمد بن كردي حدثنا أبو بكر المروزي قال: قيل لأبي عبد الله: نقول: نحن المؤمنون ؟ قال: نقول: نحن المسلمون، ثم قال أبو عبد الله: الصوم والصلاة والزكاة من الإيمان، قيل له: فإن استثنيت في إيماني أكون شاكاً ؟ قال: لا. وحدثنا أبو نصر قال: حدثنا أبو بكر المروزي قال: حدثنا أبو عبد الله قال: حدثني علي بن بحر قال: سمعت جرير بن عبد الحميد يقول: الإيمان قول وعمل، قال: وكان الأعمش ومنصور ومغيرة وليث وعطاء بن السائب وإسماعيل بن خالد وعمارة بن القعقاع والعلاء بن المسيب وابن شبرمة وسفيان الثوري وأبو يحيى صاحب الحسن وحمزة الزيات يقولون: نحن مؤمنون إن شاء الله، ويعيبون على من لم يستثن.
قال أبو بكر المروزي: سمعت بعض مشيختنا يقول: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: إذا ترك الاستثناء، فهو أصل الإرجاء.
حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي قال: حدثنا محمد بن المثنى أبو موسى الزمي قال: حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا يونس بن الحسين قال: قال رجل عند ابن مسعود: إني مؤمن، قال: فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، يزعم أنه مؤمن ؟ قال: فاسألوه، أهو في الجنة أو في النار ؟ قال: فسألوه، فقال: الله أعلم، فقال: ألا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى؟.
وحدثنا أيضاً أبو بكر قال: حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: قيل لعلقمة: أمؤمن أنت ؟ قال: أرجو إن شاء الله تعالى.
حدثنا أبو بكر أيضاً قال: حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: قال رجل لعلقمة: أمؤمن أنت ؟ قال: أرجو.
حدثنا الفريابي قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، عن مالك بن أنس، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون.. وذكر الحديث)).
الشريعة لمحمد بن الحسين الآجري - 1/130
( ونحن ) معشر الأثرية ومن وافقنا من الأشعرية وغيرهم ( في إيماننا ) الذي تقدم تعريفه ( نستثني ) فيقول أحدنا أنا مؤمن إن شاء الله ( من غير شك ) منا في ذلك، والشك التردد بين طرفين لا مزية لأحدهما على الآخر، والمراد هنا ما يعم الظن وكل ما ليس بجزم موافقة للسلف الصالح في ذلك ( فاستمع ) أي اطلب سماع ذلك واستقباله ( واستبن ) أي اطلب بيانه وإظهاره بأدلته النقلية والعقلية تظهر لك فيه الحقيقة، واعلم أن الناس في ذلك على ثلاثة أقوال منهم من يوجبه ومنهم من يحرمه، ومنهم من يجوز الأمرين باعتبارين وهذا الأخير أصح الأقوال، فالذين يحرمونه هم المرجئة والجهمية ومن وافقهم ممن يجعل الإيمان شيئا واحدا يعلمه الإنسان من نفسه كالتصديق بالرب، ونحو ذلك مما في قلبه فيقول أحدهم أنا أعلم أني مؤمن كما أعلم أني تكلمت بالشهادتين، وكما أعلم أني قرأت الفاتحة وكما أعلم أني أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأني أبغض اليهود والنصارى، فقولي أنا مؤمن كقولي أنا مسلم، ونحو ذلك من الأمور الحاضرة التي أنا أعلمها وأقطع بها، وكما أنه لا يجوز أن يقال: أنا قرأت الفاتحة إن شاء الله، كذلك لا يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، لكن إذا كان يشك في ذلك فيقول فعلته إن شاء الله، قالوا: فمن استثنى في إيمانه فهو شاك فيه وسموهم الشاكة، والذين أوجبوا الاستثناء لهم مأخذان أحدهما أن الإيمان هو ما مات عليه الإنسان، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمنا وكافرا باعتبار الموافاة، وما سبق في علم الله أنه يكون عليه وما قبل ذلك لا عبرة به، قالوا: والإيمان الذي يتعقبه الكفر فيموت صاحبه كافرا ليس بإيمان كالصلاة التي يفسدها صاحبها قبل الكمال، وكالصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب، فصاحب هذا هو عند الله كافر بعلمه بما يموت عليه، وكذلك قالوا في الكفر، وهذا المأخذ لكثير من المتأخرين من الكلابية وغيرهم ممن يريد أن ينصر أهل الحديث في قولهم أنا مؤمن إن شاء الله، ويريد من ذلك أن يجعل الإيمان لا يتفاضل، والإنسان لا يشك في الموجود منه، وإنما يشك في المستقبل، وبهذا قال كثير من المتكلمين ومن أتباع المذاهب من الحنابلة، والشافعية، والمالكية وغيرهم قالوا يحب في أزله من كان كافرا إذا علم أنه يموت مؤمنا، ما زالوا محبوبين لله، وإن كانوا قد عبدوا الأصنام مدة من الدهر، وإبليس ما زال يبغضه، وإن كان لم يكفر بعد، يعني ما زال الله يريد أن يثيب هؤلاء بعد إيمانهم ويعاقب إبليس بعد كفره، وهذا معنى صحيح فإن الله يريد أن يخلق كل ما علم أن سيخلقه، وعند هؤلاء لا يرضى عن أحد بعد أن كان ساخطا عليه فمن علم أنه يموت كافرا لم يزل مريدا لعقوبته، والإيمان الذي كان معه باطل لا فائدة فيه بل وجوده كعدمه، وإذا علم أنه يموت مسلما لم يزل مريدا لإثابته، والكفر الذي فعله وجوده كعدمه فلم يكن هذا كافرا عندهم أصلا. فهؤلاء يستثنون من الإيمان بناء على المأخذ وكذلك بعض محققيهم يستثنون في الكفر مثل أبي منصور الماتريدي، كما نقله عنه شيخ الإسلام، نعم جماهير الأئمة لا يستثني في الكفر، والاستثناء فيه بدعة لم يعرف عن أحد من السلف، ولكن هؤلاء لازم لهم، والذين فرقوا من هؤلاء قالوا: نستثني في الإيمان رغبة إلى الله أن يثبتنا عليه إلى الموت، والكفر لا يرغب فيه أحد،
قال شيخ الإسلام: وعند هؤلاء لا يعلم أحد أحدا مؤمنا إلا إذا علم أنه يموت عليه، وهذا القول قاله الكثير من أهل الكلام ووافقهم على ذلك كثير من أتباع الأئمة.
قال: ولكن ليس هذا قول أحد من السلف لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم ولا كان أحد من السلف الذين يستثنون في الإيمان يعللون بهذا لا الإمام أحمد ولا من كان قبله،
قال: ومأخذ هذا القول طرد طائفة ممن كانوا في الأصل يستثنون في الإيمان اتباعا للسلف، وكانوا قد أخذوا الاستثناء عن السلف، وكان أهل الشام شديدين على المرجئة، وكان محمد بن يوسف الفريابي صاحب الثوري مرابطا بعسقلان لما كانت عامرة وكانت من خيار ثغور المسلمين وكانوا يستثنون اتباعا للسلف واستثنوا أيضا في الأعمال الصالحة كقول الرجل صليت إن شاء الله ونحو ذلك، يعني القبول لما في ذلك من الآثار عن السلف، ثم صار كثير من هؤلاء يستثنون في كل شيء فيقول: هذا ثوبي إن شاء الله، وهذا جبل إن شاء الله، فإذا قيل لأحدهم هذا لا شك فيه، قال: نعم لا شك فيه، لكن إذا شاء الله أن يغيره غيره فيريدون بقولهم إن شاء الله جواز تغييره في المستقبل، وإن كان في الحال لا شك فيه كأن الحقيقة عندهم التي لا يستثنى فيها ما لم تتبدل كما يقوله أولئك في الإيمان أن الإيمان ما علم الله أنه لا يتبدل حتى يموت صاحبه عليه، قال: وهذا القول قاله قوم من أهل العلم والدين باجتهاد ونظر، وهؤلاء الذين يستثنون في كل شيء تلقوا ذلك عن بعض أشياخهم، وشيخهم الذي ينتسبون إليه يقال له أبو عمرو عثمان بن مرزوق لم يكن ممن يرى هذا الاستثناء بل كان في الاستثناء على طريقة من قبله، ولكن أحدث ذلك بعض أصحابه وكان شيخهم منتسبا إلى الإمام أحمد رضي الله عنه وهو من أتباع عبد الوهاب ابن الشيخ أبي الفرج المقدسي، وأبو الفرج من تلامذة القاضي أبي يعلى.
قلت: وهو الذي نشر مذهب أحمد في نواحي جبل نابلس وهو الإمام أبو الفرج الشيرازي قدس الله روحه اسمه عبد الوهاب الفقيه الزاهد الأنصاري السعدي العبادي الخزرجي شيخ الشام في وقته، وهذا البيت يعرف ببيت الحنبلي، وكان أبو الفرج إماما عالما بالفقه والأصول شديدا في السنة زاهدا عارفا عابدا متألها ذا أحوال وكرامات ظاهرة، وكان قد صحب القاضي أبا يعلى سنة نيف وأربعين وأربعمائة، وتردد إلى مجلسه سنين عدة وعلق عنه أشياء في الأصول والفروع، ثم قدم الشام وحصل له الأتباع، والتلاميذ والغلمان، وكان ناصرا لمذهبنا متجردا لنشره، وله تصانيف في الفقه والوعظ والأصول، توفي يوم الأحد ثامن عشر ذي الحجة سنة ست وثمانين وأربعمائة بدمشق، ودفن بمقبرة باب الصغير، وإلى جنبه الحافظ ابن رجب وقد زرتهما كثيرا - رحمهما الله ورضي عنهما. وهؤلاء الذين يستثنون في كل شيء كلهم، وإن كانوا منتسبين إلى الإمام أحمد - رضي الله عنه - فهم يوافقون ابن كلاب على أصله الذي كان الإمام أحمد ينكره عليه، وعلى سائر أتباعه الكلابية وأمر بهجر الإمام الحارث المحاسبي صاحب الرعاية من أجله، كما يوافقه على أصله طائفة من أصحاب الإمامين مالك، والشافعي رضي الله عنهما بل وأصحاب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه كأبي المعالي الجويني الشافعي وأبي الوليد الباجي المالكي، وأبي منصور الماتريدي الحنفي وغيرهم، وهذه الطائفة المتأخرة تنكر أن يقال: قطعا في شيء من الأشياء مع غلوهم في الاستثناء حتى صار هذا اللفظ - يعني قطعا- منكرا عندهم، وإن جزموا بالمعنى فيجزمون بأن محمدا صلى الله عليه وسلم نبيهم وأن الله ربهم ولا يقولون: قطعا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه- في كتابه الإيمان والإسلام: وقد اجتمع بي طائفة منهم فأنكرت عليهم ذلك وامتنعت من فعل مطلوبهم حتى يقولوا: قطعا وأحضروا لي كتابا فيه أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يقول الرجل: قطعا، وهي أحاديث موضوعة مختلقة قد افتراها بعض المتأخرين.
وهؤلاء وأضرابهم ظنوا أن ما هم عليه هو قول السلف، وليس كذلك مع أن هذا لم يقله أحد من السلف، وإنما حكاه هؤلاء عنهم بحسب ظنهم، والذين قالوا بالموافاة جعلوا الثبات على الإيمان إلى العاقبة، والوفاء به المآل شرطا في الإيمان شرعا لا لغة ولا عقلا، حتى إن الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة كان يغلو في هذا ويقول من يقول أنا مؤمن حقا فهو مبتدع.
قال شيخ الإسلام: ومذهب أصحاب الحديث كابن مسعود وأصحابه، والثوري وابن عيينة وأكثر علماء الكوفة ويحيى بن سعيد القطان، فيما يرويه عن علماء البصرة، والإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة كانوا يستثنون في الإيمان، وهذا متواتر عنهم لكن ليس في هؤلاء من قال: إنما نستثني لأجل الموافاة وإن الإيمان إنما هو اسم لما يوفى به بل صرح أئمة هؤلاء بأن الاستثناء إنما هو لأن الإيمان يتضمن فعل جميع الواجبات فلا يشهدون لأنفسهم بذلك كما لا يشهدون لها بالبر والتقوى، فإن ذلك مما لا يعلمونه وهو تزكية لأنفسهم بلا علم. قال شيخ الإسلام: وأما الموافاة فما علمت أحدا من السلف علل بها الاستثناء. نعم، كثير من المتأخرين يعلل بها من أصحاب الحديث من أصحاب الإمام أحمد والشافعي ومالك وغيرهم - رضي الله عنهم -.
قال شيخ الإسلام: وأكثر الناس يقولون بل هو إذا كان كافرا فهو عدو الله ثم إذا آمن واتقى صار وليا لله. فمأخذ سلف الأئمة في الاستثناء أن الإيمان المطلق فعل جميع المأمورات، وترك جميع المحظورات، فإذا قال الرجل: أنا مؤمن بهذا الاعتبار، فقد شهد لنفسه بأنه من الأبرار المتقين القائمين بفعل جميع ما أمروا به وترك كل ما نهوا عنه فيكون من أولياء الله - تعالى، وهذا تزكية الإنسان لنفسه وشهادته لها بما لا يعلم ولو كانت هذه الشهادة صحيحة لساغ أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال ولا أحد يسوغ له بذلك فهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون، وإن جوزوا ترك الاستثناء،
قال الخلال في كتاب السنة: ثنا سليمان بن الأشعث - يعني الإمام الحافظ أبا داود صاحب السنن - قال: سمعت أبا عبد الله - يعني الإمام أحمد رضي الله عنه - قال له رجل: قيل لي أمؤمن أنت ؟ قلت: نعم، هل علي في ذلك شيء ؟ هل الناس إلا مؤمن، أو كافر ؟ فغضب الإمام أحمد وقال: هذا كلام الإرجاء قال الله - تعالى -: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللّهِ} [التوبة: 106] من هؤلاء ؟ ثم قال الإمام أحمد: أليس الإيمان قولا وعملا ؟ قال له الرجل: بلى، قال: فجئنا بالقول ؟ قال: نعم، قال: فجئنا بالعمل ؟ قال: لا، فكيف تعيب أن يقول إن شاء الله ويستثني ؟ قال أبو داود: أخبرني أحمد بن شريح أن الإمام أحمد - رضي الله عنه - كتب إليه في هذه المسألة أن الإيمان قول وعمل فجئنا بالقول ولم نجئ بالعمل، ونحن نستثني في العمل. وكان سليمان بن حرب يحمل هذا على التقبل يقول: نحن نعمل ولا ندري يقبل منا أم لا؟. قال شيخ الإسلام: والقبول متعلق بفعله كما أمر، فمن فعل كما أمر فقد تقبل منه، لكن هو لا يجزم بالقبول لعدم جزمه بكمال الفعل كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60] قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله هو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف؟ قال: ((لا يا بنت الصديق بل هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق، ويخاف ألا يتقبل منه)) "وقال الإمام أحمد: أذهب إلى حديث ابن مسعود في الاستثناء في الإيمان ; لأن الإيمان قول وعمل، والعمل الفعل فقد جئنا بالقول، ونخشى أن نكون فرطنا في العمل فيعجبني أن يستثني في الإيمان يقول أنا مؤمن إن شاء الله. وقال في رواية الميموني: أقول مؤمن إن شاء الله ومؤمن أرجو ; لأنه لا يدري كيف البراءة للأعمال على ما افترض عليه أم لا. ومثل هذا كثير في كلام الإمام أحمد - رضي الله عنه - وفي كلام أمثاله من أئمة السلف، وهذا مطابق لما تقدم من أن المؤمن المطلق هو القائم بالواجبات المستحق للجنة إذا مات على ذلك، وأن المفرط بترك الأمور، أو فعل المحظور لا يطلق عليه أنه مؤمن مطلقا، وأن المؤمن المطلق هو البر التقي ولي الله، فإذا قال: أنا مؤمن قطعا، كان كقوله: أنا بر تقي ولي الله قطعا، وقد كان الإمام أحمد وغيره من السلف مع هذا يكرهون سؤال الرجل لغيره أمؤمن إن شاء الله ويكرهون الجواب ; لأن هذه بدعة أحدثتها المرجئة، ولهذا كان الصحيح أنه يجوز أن يقول: أنا مؤمن بلا استثناء إذا أراد ذلك، لكن ينبغي أن يقرن كلامه بما يبين أنه لم يرد الإيمان المطلق الكامل ; ولهذا كان الإمام أحمد - رضي الله عنه - يكره أن يجيب على المطلق بلا استثناء تقدمه. وقال المروزي: قيل لأبي عبد الله نقول: نحن المؤمنون ؟ قال: نحن المسلمون.
ومع هذا فلم يكن ينكر على من ترك الاستثناء إذا لم يكن قصده فعل المرجئة أن الإيمان مجرد القول بل يتركه، لما يعلم أن في قلبه إيمانا، وإن كان لا يجزم بكل إيمانه.وقال الخلال: أخبرني أحمد بن أصرم المزني أن أبا عبد الله قيل له إذا سألني الرجل فقال: أمؤمن أنت ؟ قال: قل له سؤالك إياي بدعة، ولا شك في إيماني، أو قال: لا نشك في إيماننا. قال المزني: وحفظي أن أبا عبد الله قال أقول كما قال طاوس: آمنت بالله وملائكته ورسله. فقد أخبر الإمام أحمد أنه قال: لا نشك في إيماننا ، وإن السائل لا يشك في إيمان المسئول وهذا أبلغ، وهو إنما يجزم بأنه مقر مصدق بما جاء به الرسول لا أنه قائم بالواجب، فعلم أن الإمام أحمد وغيره من السلف كانوا يجزمون ولا يشكون في وجود ما في القلوب من الإيمان في هذه الحال، ويجعلون الاستثناء عائدا إلى الإيمان المطلق المتضمن فعل المأمور، ويحتجون أيضا بجواز الاستثناء في ما لا شك فيه، وهذا مأخذ ثان، وإن كنا لا نشك في ما في قلوبنا من الإيمان، فالاستثناء في ما يعلم وجوده مما قد جاءت به السنة لما فيه من الحكمة قال - تعالى -: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله} [الفتح: 27]. وقال صلى الله عليه وسلم... لما وقف على المقابر: ((وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)). وقوله: ((إني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي وهي نائلة إن شاء الله من مات منهم لا يشرك بالله شيئا)). وهذا كثير، وفي الصحيحين: أن سليمان بن داود عليهما السلام قال: لأطوفن الليلة على مائة امرأة، كل منهن تأتي بفارس يقاتل في سبيل الله. فقال له صاحبه: قل إن شاء الله، فلم يقل، فلم يحمل منهن إلا امرأة جاءت بشق رجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون)) ، فإذا قال: إن شاء الله؛ لم يشك في طلبه وإرادته بل لتحقيق الله ذلك له إذ الأمور لا تحصل إلا بمشيئة الله، فإذا تألى العبد على الله من غير تعليق بمشيئته لم يحصل مراده، فإنما من يتألى على الله يكذبه، ولهذا يروى: لا أتممت لمقدر أمرا وقيل لبعضهم بما عرفت ربك ؟ قال: بفسخ العزائم ونقض الهمم. وقد قال - تعالى -: {ولا تقولن لشيء إني فاعل }وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ{ [الكهف: 23].}
وفي (شرح مختصر التحرير): يجوز الاستثناء في الإيمان بأن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله نص على ذلك الإمام أحمد، والإمام الشافعي، وحكي عن ابن مسعود - رضي الله عنهم -،
وقال ابن عقيل: يستحب ولا يقطع لنفسه، ومنع ذلك الإمام أبو حنيفة وأصحابه والأكثرون، والله أعلم.
لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لمحمد بن أحمد السفاريني – 1/432
مسألة الاستثناء في الإيمان، وهو أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فمرجئة الفقهاء من الأحناف يقولون: لا يجوز لك أن تستثني، حرام أن تقول أنا مؤمن إن شاء الله، لأنك تشك في إيمانك، تعرف نفسك أنك مصدق، فكيف تشك ؟ فإذا قالوا: إن من قال: أنا مؤمن إن شاء الله فهو شاك في إيمانه، لأن الإيمان هو التصديق أن تعرف نفسك أنك مصدق كما تعرف نفسك، أنك تحب الرسول، وأنك تبغض اليهود، هل تشك في إيمانك؟ هل تشك في الشيء الموجود ؟.
قالوا: لا يجوز للإنسان أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ومن قال أنا مؤمن إن شاء الله، فهو شاك في إيمانه، ويسمون أهل السنة الشكاكة، أما أهل السنة والجماعة، هم قالوا: المسألة فيها تفصيل، يجوز الاستثناء في الإيمان في بعض الأحوال، ولا يجوز في بعض الأحوال، فإذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله، وقصده الشك في أصل إيمانه، وهو التصديق فهذا ممنوع.
أما إذا قال: إن شاء الله، وقصده الاستثناء راجع إلي الأعمال أعمال الإيمان، الواجبات كثيرة، والمحرمات كثيرة، فلا يجزم الإنسان بأنه أدى ما أوجب الله عليه، ولا يجزم الإنسان بأنه ترك كل ما حرم الله عليه، ولا يزكي نفسه، فهو يقول: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأن الأعمال متشعبة كثيرة، لا يجزم بأنه أدى كل ما عليه، بل هو محل للتقصير والنقص، ولا يجزم بأنه ترك كل ما حرم الله عليه، بل قد يقترف شيئا من ذلك، فهو يقول: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأنه لا يزكي نفسه؛ ولأن أعمال الإيمان متشعبة، فلا بأس أن يقول: إن شاء الله، كذلك إذا قال أنا مؤمن إن شاء الله، وقصده تعليق الأمر بمشيئة الله للتبرك باسم الله، فلا حرج، وكذلك إذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله، وأراد عدم علمه بالعاقبة، فلا بأس أما إذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله، وقصده الشك في أصل إيمانه، فهذا لا يجوز. وبهذا يتبين أن الخلاف بين الأحناف والجمهور له ثمرة،
شرح الطحاوية لعبدالعزيز الراجحي – 1/246
الاستثناء عند السلف راجع إلى أحد خمسة أمور:الأول: أن الإيمان المطلق يتضمن فعل المأمورات وترك المحرمات جميعها، وليس أحد يدعي أنه أتى بذلك، فجاز أن يستثني على هذا الاعتبار (وهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون) .الثاني: النظر إلى قبول الأعمال، فإن الإنسان يعمل ولا يدري أيتقبل منه أم لا، لخوفه أن لا يكون أتى بالعمل على الوجه المأمور .الثالث: ترك تزكية النفس، وأي تزكية أعظم من التزكية بالإيمان .الرابع: أن الاستثناء يكون في الأمور المتيقنة التي لا يشك فيها، كما سبق في آية الفتح، وفي قصة صاحب القبر .الخامس: الاستثناء لعدم العلم بالعاقبة، وخوف تغير الحال، في مستقبل العمر، وفي ذلك يقول ابن بطة: (ويصح الاستثناء أيضا من وجه آخر يقع على مستقبل الأعمال، ومُستأنَف الأعمال، وعلى الخاتمة وبقية الأعمار، ويُريد: إني مؤمن إن ختم الله لي بأعمال المؤمنين وإن كنت عند الله مثبتا في ديوان أهل الإيمان، وإن كان ما أنا عليه من أفعال المؤمنين أمرا يدوم لي ويبقى علي حتى ألقى الله به، ولا أدري هل أصبح وأُمسي على الإيمان أم لا؟ وبذلك أدَّب الله نبيه والمؤمنين من عباده، قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ} [الكهف: 24] .
والحاصل أن أهل السنة على جواز الاستثناء لهذه الاعتبارات، وجواز تركه إذا كان المقصود أصل الإيمان، لا الإيمان المطلق الكامل، وأما على الشك، فيمنع منه اتفاقا. وينبغي لمن لم يستثنِ أن يقرن كلامه بما يبيِّن أنه لا يريد الإيمان المطلق الكامل، كأن يقول: آمنت بالله وملائكته ورسله، ونحو ذلك.قال شيخ الإسلام: (ولهذا كان الصحيح أنه يجوز أن يقال: أنا مؤمن بلا استثناء إذا أراد ذلك، لكن ينبغي أن يقرن كلامه بما يبين أنه لم يرد الإيمان المطلق الكامل) .وقال ابن أبي العز ملخصاً أوجه الاستثناء: (وأما من يجوِّز الاستثناءَ وتركَه، فهم أسعد بالدليل من الفريقين ، وخير الأمور أوسطها، فإن أراد المستثني الشك في أصل إيمانه مُنع من الاستثناء، وهذا مما لا خلاف فيه، وإن أراد أنه مؤمن من المؤمنين الذين وصفهم الله في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2-4]، وفي قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15] فالاستثناء حينئذٍ جائز. وكذلك من استثنى وأراد عدم علمه بالعاقبة. وكذلك من استثنى تعليقاً للأمر بمشيئة الله، لا شكا في إيمانه، وهذا القول في القوة كما ترى) .
كراهة السلف سؤال الرجل أخاه: أمؤمن أنت؟
وقد كره السلف سؤال الرجل أخاه: أمؤمن أنت؟ بل عدوا هذا من البدع التي أحدثها المرجئة.قال إبراهيم النخعي: (سؤالُ الرجلِ الرجلَ: أمؤمنٌ أنت؟ بدعةٌ) .وقال سفيان بن عيينة: إذا سئل أمؤمن أنت؟ إن شاء لم يجبه، أو يقول: سؤالك إياي بدعة، ولا أشك في إيماني .قال الآجري: (إذا قال لك الرجل: أنت مؤمن؟ فقل: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والموت والبعث من بعد الموت والجنة والنار، وإن أحببت ألا تجيبه، تقول له: سؤالك إياي بدعة فلا أجيبك، وإن أجبته فقلت: أنا مؤمن إن شاء الله على النعت الذي ذكرناه فلا بأس به. واحذر مناظرة مثل هذا، فإن هذا عند العلماء مذموم، واتبع من مضى من أئمة المسلمين تسلم إن شاء الله) .
والمرجئة أوردت هذا السؤال احتجاجا منها على أن الإيمان قول وتصديق بلا عمل. ووجه ذلك أن المجيب إذا قال: أنا مؤمن، قيل له: فهل جئت بالعمل؟ وكيف ساغ لك الجزم بالإيمان وأنت لا تجزم بالعمل؟ فهذا تسليم منك بأن الإيمان قول بلا عمل!فلما علم السلف مقصودهم، كرهوا السؤال، وكرهوا جوابه .قال شيخ الإسلام: (وقد كان أحمد وغيره من السلف مع هذا يكرهون سؤال الرجل لغيره: أمؤمن أنت؟ ويكرهون الجواب؛ لأن هذه بدعة أحدثها المرجئة ليحتجوا بها لقولهم، فإن الرجل يعلم من نفسه أنه ليس بكافر، بل يجد قلبه مصدقا بما جاء به الرسول، فيقول: أنا مؤمن، فيثبت أن الإيمان هو التصديق؛ لأنك تجزم بأنك مؤمن، ولا تجزم بأنك فعلت كل ما أمرت به، فلما علم السلف مقصدهم صاروا يكرهون الجواب، أو يفصلون في الجواب، وهذا لأن لفظ الإيمان فيه إطلاق وتقييد، فكانوا يجيبون بالإيمان المقيد الذي لا يستلزم أنه شاهد فيه لنفسه بالكمال، ولهذا كان الصحيح أنه يجوز أن يقال: أنا مؤمن بلا استثناء إذا أراد ذلك، لكن ينبغي أن يقرن كلامه بما يبين أنه لم يرد الإيمان المطلق الكامل، ولهذا كان أحمد يكره أن يجيب على المطلق بلا استثناء يقدمه. وقال المروزي: قيل لأبي عبد الله نقول: نحن المؤمنون؟ فقال نقول: نحن المسلمون. وقال أيضا: قلت لأبي عبد الله: نقول إنا مؤمنون؟ قال: ولكن نقول: إنا مسلمون. ومع هذا فلم ينكر على من ترك الاستثناء إذا لم يكن قصدُه قصدَ المرجئة أن الإيمان مجرد القول، بل يكره تركَه لما يعلم أن في قلبه إيمانا وإن كان لا يجزم بكمال إيمانه. قال الخلال: أخبرني أحمد بن أصرم المزني أن أبا عبد الله قيل له: إذا سألني الرجل فقال: أمؤمن أنت؟ قال سؤالك إياي بدعة لا يشك في إيمانه، أو قال: لا نشك في إيماننا. قال المزني: وحفظي أن أبا عبد الله قال: أقول كما قال طاووس: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله... فعُلم أن أحمد وغيره من السلف كانوا يجزمون ولا يشكون في وجود ما في القلب من الإيمان في هذه الحال، ويجعلون الاستثناء عائدا إلى الإيمان المطلق المتضمن فعل المأمور) .
الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير - 1/96
{فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]و((كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول حين يدخل المقبرة: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية)) .وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من شهد على نفسه أنه مؤمن؛ فليشهد أنه في الجنة) .وقال جرير: سمعت منصور بن المعتمر، والمغيرة، والأعمش والليث، وعمارة بن القعقاع، وابن شبرمة، والعلاء بن المسيب ويزيد بن أبي زياد وسفيان الثوري، وابن المبارك، ومن أدركت: (يستثنون في الإيمان، ويعيبون على من لا يستثني) .وسئل الإمام أحمد بن حنبل عن الإيمان؟ فقال: (قول وعمل ونية). قيل له: فإذا قال الرجل: مؤمن أنت؟ قال: (هذه بدعة). قيل له: فما يرد عليه؟ قال: يقول: (مؤمن إن شاء الله) .
الوجيز في عقيدة السلف الصالح لعبد الحميد الأثري - ص115
مسألة الاستثناء في الإيمان وهو قول القائل: (أنا مؤمن إن شاء الله) فمرجئة الفقهاء يمنعون الاستثناء في الإيمان؛ لأن الإيمان شيء واحد هو التصديق، فيقولون: أنت تعلم أنك مصدِّق بالقلب فكيف تقول: أنا مؤمن إن شاء الله. إذاًََ أنت تشك في إيمانك، ولهذا يسمون المؤمنين الذين يستثنون في إيمانهم الشكَّاكة، فأنت تعلم في نفسك أنك مصدِّق كما تعلم أنك قرأت الفاتحة وكما تعلم أنك تحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وتبغض اليهود فكيف تقول: إن شاء الله، بل قل: أنا مؤمن؛ اجزم ولا تشك في إيمانك. وأما جمهور أهل السنة فإنهم يفصِّلون فيقولون: إن قال القائل: (أنا مؤمن إن شاء الله) يقصد الشك في أصل إيمانه فهذا ممنوع؛ فأصل الإيمان التصديق، وأما إن نظر إلى الأعمال والواجبات التي أوجبها الله والمحرمات التي حرمها الله ورأى أن شعب الإيمان متعددة والواجبات كثيرة فالإنسان لا يزكِّي نفسه ولا يقول بأنه أدَّى ما عليه؛ بل يتهم نفسه بالتقصير ويزري على نفسه فإذا قال: (أنا مؤمن إن شاء الله) فإن الاستثناء راجع إلى الأعمال، فهذا لا بأس به بل حسن أن يقول: إن شاء الله. وكذلك إذا أراد عدم علمه بالعاقبة وأن العاقبة لا يعلمها إلا الله فلا بأس بالاستثناء، وكذلك إذا أراد التبرك بذكر اسم الله فلا بأس.
أسئلة وأجوبة في الإيمان والكفر لعبدالعزيز الراجحي
أهل السنة والجماعة: يرون جواز الاستثناء في الإيمان في أحوال، وذهب إلى هذا جمهور أئمتهم من السلف والخلف.
أي: قول الإنسان عن نفسه إذا سئل هل (أنت مؤمن؟) فيقول بإجابة ليس فيها ما يوهم الجزم والقطع بكمال الإيمان:
(أنا مؤمن إن شاء الله) أو (أرجو... ) أو نحو ذلك.
لأن الذي يقول: إن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص؛ ينبغي عليه إذا قال (أنا مؤمن) أن يستثني؛ لأنه لا يستطيع أن يجزم بأن معه كمال الإيمان، وإن جزم! فقد زكى نفسه؛ لأن الإيمان شامل للاعتقادات والأقوال والأعمال.
وأهل السنة والجماعة: يرون الاستثناء في الإيمان؛ لشدة خوفهم من الله تعالى، وإثباتاً لأقداره، ونفياً لتزكية أنفسهم، لا شكاً فيما يجب عليهم الإيمان به، ولكن خوفاً أن لا يكونوا قاموا بحقائقه، ورجاء أن يأتوا بواجباته وكمالاته.
ويمنعون الاستثناء إذا كان على وجه الشك في الإيمان؛ لأن الشك في ذلك كفر؛ بل يقصدون من ذلك: نفي الشك في إيمانهم من جهة، وعدم الجزم بكماله من جهة أخرى.
لإن الإيمان النافع هو المتقبل عند الله تعالى، إذ أن من قام بالعمل الصالح وأتى به، لا يدري هل يقبل منه عمله أم لا؟ فالاستثناء هنا معناه عدم العلم بالعاقبة.
فأهل السنة والجماعة لا يجزمون لأنفسهم بالإيمان المطلق؛ لأن الإيمان يشمل فعل جميع الطاعات، وترك جميع المنهيات، ولن يستطيع أحد أن يدعي لنفسه أنه جاء بذلك كله على التمام والكمال، وإن قال؛ فقد شهد لنفسه بأنه من الأبرار المتقين، وأولياء الله الصالحين! وضمن لنفسه دخول الجنة ابتداءً، وهذا من التألي على الله تعالى – والعياذ بالله – ولا يقولها مسلم عاقل.
وهم بعيدون عن تزكية أنفسهم، ولا أعظم للنفس تزكية وراء الشهادة لها بالإيمان الشامل لكل شعبة.
الاستثناء – عندهم – في الأمور المتيقنة غير المشكوك فيها؛ فما كان مقطوعاً به؛ فلا يجوز الاستثناء.
ومن حكمتهم وتأدبهم مع الله – جل وعلا – يعلقون الأمور كلها بمشيئته سبحانه وتعالى.
وهم يفضلون الاستثناء ولم يوجبوه؛ لما في تركه من الإيهام بتزكية النفس، والشهادة لها بالكمال.
ويكرهون تركه ولم يحرموه؛ وأجازوه على معنى الدخول في الإيمان، لا على كماله؛ فهم يجوزون الأمرين لعدم ورود الدليل على التحريم، أو الوجوب، والله أعلم.
وهم يرون أن السؤال: (هل أنت مؤمن؟) بدعة أحدثها أهل البدع من المرجئة؛ ليحتجوا بها على قولهم في الإيمان: إنه التصديق، وإن العمل ليس من الإيمان؛ خلافاً لعقيدة السلف الصالح.
والأدلة على جواز الاستثناء كثيرة في الكتاب، والسنة، وآثار السلف الصالح، وأقوال الأئمة والعلماء منها:
قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ} [الكهف: 23-24]
وقوله: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27]
وقوله: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]
وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60] وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول حين يدخل المقبرة: ((السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غداً مؤجلون. وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد)) .وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من شهد على نفسه أنه مؤمن؛ فليشهد أنه في الجنة) .وقال رجل عند ابن مسعود رضي الله عنه: (أنا مؤمن). فقال ابن مسعود: (أفأنت في الجنة؟) فقال: (أرجو). فقال ابن مسعود: (أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى؟) .وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: (أذهب إلى حديث ابن مسعود في الاستثناء في الإيمان؛ لأن الإيمان قول وعمل، والعمل الفعل، فقد جئنا بالقول، ونخشى أن نكون قد فرطنا في العمل؛ فيعجبني أن نستثني في الإيمان، نقول: أنا مؤمن إن شاء الله) .وقال الوليد بن مسلم: سمعت أبا عمرو – يعني الأوزاعي – ومالك بن أنس، وسعيد بن عبد العزيز؛ لا ينكرون أن يقول: أنا مؤمن، ويأذنون في الاستثناء أن أقول: (أنا مؤمن إن شاء الله) .وقال الإمام يحيى بن سعيد القطان رحمه الله: (ما أدركت أحداً من أصحابنا ولا بلغنا إلا على الاستثناء) ...وقال الإمام إبراهيم النخعي رحمه الله: (سؤال الرجل الرجل: أمؤمن أنت؟ بدعة) .وقال الإمام سفيان بن عيينة رحمه الله: (إذا سئل: أمؤمن أنت؟ إن شاء لم يجبه، أو يقول: سؤالك إياي بدعة، ولا أشك في إيماني، ولا يعنف من قال: إن الإيمان ينقص، أو قال: مؤمن إن شاء الله، وليس يكره وليس بداخل في الشك) .
وقال الإمام الآجري رحمه الله: (من صفة أهل الحق ممن ذكرنا من أهل العلم: الاستثناء في الإيمان، لا على جهة الشك – نعوذ بالله من الشك في الإيمان – ولكن خوف التزكية لأنفسهم من الاستكمال للإيمان، لا يدري أهو ممن يستحق حقيقة الإيمان أم لا؟...هذا طريق الصحابة والتابعين بهم بإحسان، عندهم أن الاستثناء في الأعمال لا يكون في القول والتصديق في القلب، وإنما الاستثناء في الأعمال الموجبة لحقيقة الإيمان، والناس عندهم على الظاهر مؤمنون، به يتوارثون، وبه يتناكحون، وبه تجري أحكام ملة الإسلام، ولكن الاستثناء منهم على حسب ما بيناه لك، وبينه العلماء من قبلنا، روي في هذا سنن كثيرة، وآثار تدل على ما قلنا) .وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إن الإيمان المطلق؛ يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك المحرمات كلها؛ فإذا قال الرجل: أنا مؤمن بهذا الاعتبار فقد شهد لنفسه بأنه من الأبرار المتقين القائمين بفعل جميع ما أمروا به، وترك كل ما نهو عنه؛ فيكون من أولياء الله، وهذا من تزكية الإنسان لنفسه، وشهادته لنفسه بما لا يعلم، ولو كانت هذه الشهادة صحيحة؛ لكان ينبغي له أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال، ولا أحد يشهد لنفسه بالجنة؛ فشهادته لنفسه بالإيمان؛ كشهادته لنفسه بالجنة إذا مات على هذه الحال، وهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون، وإن جوزوا ترك الاستثناء بمعنى آخر) .وقال: (والمأثور عن الصحابة، وأئمة التابعين، وجمهور السلف، وهو مذهب أهل الحديث، وهو المنسوب إلى أهل السنة: أن الإيمان قول وعمل؛ يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وأنه يجوز الاستثناء فيه) .
الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة عبدالله بن عبدالحميد الأثري – ص101
باب ذكر الاستثناء في الإيمان من غير شك فيه
قال محمد بن الحسين رحمه الله: من صفة أهل الحق ممن ذكرنا من أهل العلم: الاستثناء في الإيمان، لا على جهة الشك، نعوذ بالله من الشك في الإيمان، ولكن خوف التزكية لأنفسهم من الاستكمال للإيمان، لا يدري أهو ممن يستحق حقيقة الإيمان أم لا، وذلك أن أهل العلم من أهل الحق إذا سئلوا: أمؤمن أنت ؟ قال: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار، وأشباه هذا، والناطق بهذا، والمصدق به في قلبه مؤمن، وإنما الاستثناء في الإيمان لا يدرى أهو ممن يستوجب مانعت الله عز وجل به المؤمنين من حقيقة الإيمان أم لا؟ هذا طريق الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان، عندهم أن الاستثناء في الأعمال، لا يكون في القول، والتصديق بالقلب ؟ وإنما الاستثناء في الأعمال الموجبة لحقيقة الإيمان، والناس عندهم على الظاهر مؤمنون، به يتوارثون، وبه يتناكحون، وبه تجري أحكام ملة الإسلام، ولكن الاستثناء منهم على حسب ما بيناه لك، وبينه العلماء من قبلنا.
روي في هذا سنن كثيرة، وأنا أزيدك على ما قلنا.
قال الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ}.وقد علم الله عز وجل أنهم داخلون، وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم المقبرة فقال: ((السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)) ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله)).
وروي أن رجلاً قال عند عبد الله بن مسعود: أنا مؤمن، فقال ابن مسعود: أفأنت من أهل الجنة ؟ فقال: أرجو، فقال ابن مسعود: أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى؟.
وقال رجل لعلقمة: أمؤمن أنت ؟ قال: أرجو إن شاء الله. قال محمد بن الحسين رحمه الله تعالى: وهذا مذهب كثير من العلماء، وهو مذهب أحمد بن حنبل. واحتج أحمد بما ذكرنا، واحتج بمساءلة الملكين في القبر للمؤمن ومجاوبتهما له فيقولان له: على اليقين كنت، وعليه مت، وعليه تبعث يوم القيامة إن شاء الله تعالى، ويقال للكافر والمنافق: على شك كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله.
حدثني أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي قال: حدثنا أبو بكر الأثرم قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل سئل عن الاستثناء في الإيمان ما تقول فيه ؟
قال: أما أنا فلا أعيبه. قال أبو عبد الله: إذا كان يقول أن الإيمان: قول وعمل، واستثناء مخافة واحتياطاً، ليس كما يقولون على الشك، أفما تستثني للعمل، قال الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ}، فهذا استثناء بغير شك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله)) قال: هذا كله تقوية للاستثناء في الإيمان.
وحدثنا جعفر الصندلي قال: حدثنا الفضل بن زياد قال: سمعت أبا عبد الله يعجبه الاستثناء في الإيمان ؟ فقال له رجل: إنما الناس رجلان: مؤمن وكافر ؟ فقال أبو عبد الله: فأين قوله تعالى: وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم.
قال: سمعت أبا عبد الله يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما أدركت أحداً إلا على الاستثناء.
قال: وسمعت أبا عبد الله مرة أخرى يقول: سمعت يحيى يقول: ما أدركت أحداً من أهل العلم، ولا بلغني إلا الاستثناء، قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: سمعت سفيان بن عيينة إذا سئل: أمؤمن أنت ؟ إن شاء لم يجبه، وإن شاء قال: سؤالك إياي بدعة، ولا أشك في إيماني، ولا يعنف من قال: إن الإيمان ينقص، أو قال: إن شاء الله، ليس يكرهه، وليس بداخل في الشك قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: إذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله فليس هو بشاك، قيل له: إن شاء الله: أليس هو شك ؟ فقال: معاذ الله، أليس قد قال الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ}، وفي علمه أنهم يدخلونه.
وصاحب القبر إذا قيل له: وعليه تبعث إن شاء الله فأي شك ههنا ؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)).
وسمعت أبا عبد الله يقول: حدثنا وكيع قال: قال سفيان: الناس عندنا مؤمنون في الأحكام والمواريث، ولا ندري كيف هم عند الله عز وجل ؟ ونرجو أن نكون كذلك.
وحدثنا ابن مخلد قال: حدثنا أبو داود قال: سمعت أحمد قال: سمعت سفيان يقول: إذا سئل أمؤمن أنت ؟ إن شاء لم يجبه، أو يقول له: سؤالك إياي بدعة، ولا أشك في إيماني، وقال: إن شاء الله ليس يكرهه، وليس بداخل في الشك.
قال: وسمعت أحمد قال: سمعت يحيى بن سعيد قال: ما أدركت أحداً من أصحابنا، ولا بلغني إلا على الاستثناء، وقال: قال يحيى: الإيمان: قول وعمل.
وسمعت أحمد قال: حدثنا وكيع قال: قال سفيان: الناس عندنا مؤمنون في الأحكام والمواريث، فنرجو أن نكون كذلك، ولا ندري ما حالنا عند الله عز وجل.
وسمعت أحمد قال: قال يحيى بن سعيد: كان سفيان ينكر أن يقول: أنا مؤمن.
وحدثنا جعفر الصندلي قال: حدثنا الفضل بن زياد قال: سمعت أبا عبد الله يقول: حدثني مؤمل قال: حدثنا حماد بن زيد قال: سمعت هشاماً يذكر، قال: كان الحسن ومحمد يهابان أن يقولا: مؤمن، ويقولان: مسلم.
وحدثنا أبو نصر محمد بن كردي حدثنا أبو بكر المروزي قال: قيل لأبي عبد الله: نقول: نحن المؤمنون ؟ قال: نقول: نحن المسلمون، ثم قال أبو عبد الله: الصوم والصلاة والزكاة من الإيمان، قيل له: فإن استثنيت في إيماني أكون شاكاً ؟ قال: لا. وحدثنا أبو نصر قال: حدثنا أبو بكر المروزي قال: حدثنا أبو عبد الله قال: حدثني علي بن بحر قال: سمعت جرير بن عبد الحميد يقول: الإيمان قول وعمل، قال: وكان الأعمش ومنصور ومغيرة وليث وعطاء بن السائب وإسماعيل بن خالد وعمارة بن القعقاع والعلاء بن المسيب وابن شبرمة وسفيان الثوري وأبو يحيى صاحب الحسن وحمزة الزيات يقولون: نحن مؤمنون إن شاء الله، ويعيبون على من لم يستثن.
قال أبو بكر المروزي: سمعت بعض مشيختنا يقول: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: إذا ترك الاستثناء، فهو أصل الإرجاء.
حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي قال: حدثنا محمد بن المثنى أبو موسى الزمي قال: حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا يونس بن الحسين قال: قال رجل عند ابن مسعود: إني مؤمن، قال: فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، يزعم أنه مؤمن ؟ قال: فاسألوه، أهو في الجنة أو في النار ؟ قال: فسألوه، فقال: الله أعلم، فقال: ألا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى؟.
وحدثنا أيضاً أبو بكر قال: حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: قيل لعلقمة: أمؤمن أنت ؟ قال: أرجو إن شاء الله تعالى.
حدثنا أبو بكر أيضاً قال: حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: قال رجل لعلقمة: أمؤمن أنت ؟ قال: أرجو.
حدثنا الفريابي قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، عن مالك بن أنس، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون.. وذكر الحديث)).
الشريعة لمحمد بن الحسين الآجري - 1/130
( ونحن ) معشر الأثرية ومن وافقنا من الأشعرية وغيرهم ( في إيماننا ) الذي تقدم تعريفه ( نستثني ) فيقول أحدنا أنا مؤمن إن شاء الله ( من غير شك ) منا في ذلك، والشك التردد بين طرفين لا مزية لأحدهما على الآخر، والمراد هنا ما يعم الظن وكل ما ليس بجزم موافقة للسلف الصالح في ذلك ( فاستمع ) أي اطلب سماع ذلك واستقباله ( واستبن ) أي اطلب بيانه وإظهاره بأدلته النقلية والعقلية تظهر لك فيه الحقيقة، واعلم أن الناس في ذلك على ثلاثة أقوال منهم من يوجبه ومنهم من يحرمه، ومنهم من يجوز الأمرين باعتبارين وهذا الأخير أصح الأقوال، فالذين يحرمونه هم المرجئة والجهمية ومن وافقهم ممن يجعل الإيمان شيئا واحدا يعلمه الإنسان من نفسه كالتصديق بالرب، ونحو ذلك مما في قلبه فيقول أحدهم أنا أعلم أني مؤمن كما أعلم أني تكلمت بالشهادتين، وكما أعلم أني قرأت الفاتحة وكما أعلم أني أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأني أبغض اليهود والنصارى، فقولي أنا مؤمن كقولي أنا مسلم، ونحو ذلك من الأمور الحاضرة التي أنا أعلمها وأقطع بها، وكما أنه لا يجوز أن يقال: أنا قرأت الفاتحة إن شاء الله، كذلك لا يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، لكن إذا كان يشك في ذلك فيقول فعلته إن شاء الله، قالوا: فمن استثنى في إيمانه فهو شاك فيه وسموهم الشاكة، والذين أوجبوا الاستثناء لهم مأخذان أحدهما أن الإيمان هو ما مات عليه الإنسان، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمنا وكافرا باعتبار الموافاة، وما سبق في علم الله أنه يكون عليه وما قبل ذلك لا عبرة به، قالوا: والإيمان الذي يتعقبه الكفر فيموت صاحبه كافرا ليس بإيمان كالصلاة التي يفسدها صاحبها قبل الكمال، وكالصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب، فصاحب هذا هو عند الله كافر بعلمه بما يموت عليه، وكذلك قالوا في الكفر، وهذا المأخذ لكثير من المتأخرين من الكلابية وغيرهم ممن يريد أن ينصر أهل الحديث في قولهم أنا مؤمن إن شاء الله، ويريد من ذلك أن يجعل الإيمان لا يتفاضل، والإنسان لا يشك في الموجود منه، وإنما يشك في المستقبل، وبهذا قال كثير من المتكلمين ومن أتباع المذاهب من الحنابلة، والشافعية، والمالكية وغيرهم قالوا يحب في أزله من كان كافرا إذا علم أنه يموت مؤمنا، ما زالوا محبوبين لله، وإن كانوا قد عبدوا الأصنام مدة من الدهر، وإبليس ما زال يبغضه، وإن كان لم يكفر بعد، يعني ما زال الله يريد أن يثيب هؤلاء بعد إيمانهم ويعاقب إبليس بعد كفره، وهذا معنى صحيح فإن الله يريد أن يخلق كل ما علم أن سيخلقه، وعند هؤلاء لا يرضى عن أحد بعد أن كان ساخطا عليه فمن علم أنه يموت كافرا لم يزل مريدا لعقوبته، والإيمان الذي كان معه باطل لا فائدة فيه بل وجوده كعدمه، وإذا علم أنه يموت مسلما لم يزل مريدا لإثابته، والكفر الذي فعله وجوده كعدمه فلم يكن هذا كافرا عندهم أصلا. فهؤلاء يستثنون من الإيمان بناء على المأخذ وكذلك بعض محققيهم يستثنون في الكفر مثل أبي منصور الماتريدي، كما نقله عنه شيخ الإسلام، نعم جماهير الأئمة لا يستثني في الكفر، والاستثناء فيه بدعة لم يعرف عن أحد من السلف، ولكن هؤلاء لازم لهم، والذين فرقوا من هؤلاء قالوا: نستثني في الإيمان رغبة إلى الله أن يثبتنا عليه إلى الموت، والكفر لا يرغب فيه أحد،
قال شيخ الإسلام: وعند هؤلاء لا يعلم أحد أحدا مؤمنا إلا إذا علم أنه يموت عليه، وهذا القول قاله الكثير من أهل الكلام ووافقهم على ذلك كثير من أتباع الأئمة.
قال: ولكن ليس هذا قول أحد من السلف لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم ولا كان أحد من السلف الذين يستثنون في الإيمان يعللون بهذا لا الإمام أحمد ولا من كان قبله،
قال: ومأخذ هذا القول طرد طائفة ممن كانوا في الأصل يستثنون في الإيمان اتباعا للسلف، وكانوا قد أخذوا الاستثناء عن السلف، وكان أهل الشام شديدين على المرجئة، وكان محمد بن يوسف الفريابي صاحب الثوري مرابطا بعسقلان لما كانت عامرة وكانت من خيار ثغور المسلمين وكانوا يستثنون اتباعا للسلف واستثنوا أيضا في الأعمال الصالحة كقول الرجل صليت إن شاء الله ونحو ذلك، يعني القبول لما في ذلك من الآثار عن السلف، ثم صار كثير من هؤلاء يستثنون في كل شيء فيقول: هذا ثوبي إن شاء الله، وهذا جبل إن شاء الله، فإذا قيل لأحدهم هذا لا شك فيه، قال: نعم لا شك فيه، لكن إذا شاء الله أن يغيره غيره فيريدون بقولهم إن شاء الله جواز تغييره في المستقبل، وإن كان في الحال لا شك فيه كأن الحقيقة عندهم التي لا يستثنى فيها ما لم تتبدل كما يقوله أولئك في الإيمان أن الإيمان ما علم الله أنه لا يتبدل حتى يموت صاحبه عليه، قال: وهذا القول قاله قوم من أهل العلم والدين باجتهاد ونظر، وهؤلاء الذين يستثنون في كل شيء تلقوا ذلك عن بعض أشياخهم، وشيخهم الذي ينتسبون إليه يقال له أبو عمرو عثمان بن مرزوق لم يكن ممن يرى هذا الاستثناء بل كان في الاستثناء على طريقة من قبله، ولكن أحدث ذلك بعض أصحابه وكان شيخهم منتسبا إلى الإمام أحمد رضي الله عنه وهو من أتباع عبد الوهاب ابن الشيخ أبي الفرج المقدسي، وأبو الفرج من تلامذة القاضي أبي يعلى.
قلت: وهو الذي نشر مذهب أحمد في نواحي جبل نابلس وهو الإمام أبو الفرج الشيرازي قدس الله روحه اسمه عبد الوهاب الفقيه الزاهد الأنصاري السعدي العبادي الخزرجي شيخ الشام في وقته، وهذا البيت يعرف ببيت الحنبلي، وكان أبو الفرج إماما عالما بالفقه والأصول شديدا في السنة زاهدا عارفا عابدا متألها ذا أحوال وكرامات ظاهرة، وكان قد صحب القاضي أبا يعلى سنة نيف وأربعين وأربعمائة، وتردد إلى مجلسه سنين عدة وعلق عنه أشياء في الأصول والفروع، ثم قدم الشام وحصل له الأتباع، والتلاميذ والغلمان، وكان ناصرا لمذهبنا متجردا لنشره، وله تصانيف في الفقه والوعظ والأصول، توفي يوم الأحد ثامن عشر ذي الحجة سنة ست وثمانين وأربعمائة بدمشق، ودفن بمقبرة باب الصغير، وإلى جنبه الحافظ ابن رجب وقد زرتهما كثيرا - رحمهما الله ورضي عنهما. وهؤلاء الذين يستثنون في كل شيء كلهم، وإن كانوا منتسبين إلى الإمام أحمد - رضي الله عنه - فهم يوافقون ابن كلاب على أصله الذي كان الإمام أحمد ينكره عليه، وعلى سائر أتباعه الكلابية وأمر بهجر الإمام الحارث المحاسبي صاحب الرعاية من أجله، كما يوافقه على أصله طائفة من أصحاب الإمامين مالك، والشافعي رضي الله عنهما بل وأصحاب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه كأبي المعالي الجويني الشافعي وأبي الوليد الباجي المالكي، وأبي منصور الماتريدي الحنفي وغيرهم، وهذه الطائفة المتأخرة تنكر أن يقال: قطعا في شيء من الأشياء مع غلوهم في الاستثناء حتى صار هذا اللفظ - يعني قطعا- منكرا عندهم، وإن جزموا بالمعنى فيجزمون بأن محمدا صلى الله عليه وسلم نبيهم وأن الله ربهم ولا يقولون: قطعا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه- في كتابه الإيمان والإسلام: وقد اجتمع بي طائفة منهم فأنكرت عليهم ذلك وامتنعت من فعل مطلوبهم حتى يقولوا: قطعا وأحضروا لي كتابا فيه أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يقول الرجل: قطعا، وهي أحاديث موضوعة مختلقة قد افتراها بعض المتأخرين.
وهؤلاء وأضرابهم ظنوا أن ما هم عليه هو قول السلف، وليس كذلك مع أن هذا لم يقله أحد من السلف، وإنما حكاه هؤلاء عنهم بحسب ظنهم، والذين قالوا بالموافاة جعلوا الثبات على الإيمان إلى العاقبة، والوفاء به المآل شرطا في الإيمان شرعا لا لغة ولا عقلا، حتى إن الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة كان يغلو في هذا ويقول من يقول أنا مؤمن حقا فهو مبتدع.
قال شيخ الإسلام: ومذهب أصحاب الحديث كابن مسعود وأصحابه، والثوري وابن عيينة وأكثر علماء الكوفة ويحيى بن سعيد القطان، فيما يرويه عن علماء البصرة، والإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة كانوا يستثنون في الإيمان، وهذا متواتر عنهم لكن ليس في هؤلاء من قال: إنما نستثني لأجل الموافاة وإن الإيمان إنما هو اسم لما يوفى به بل صرح أئمة هؤلاء بأن الاستثناء إنما هو لأن الإيمان يتضمن فعل جميع الواجبات فلا يشهدون لأنفسهم بذلك كما لا يشهدون لها بالبر والتقوى، فإن ذلك مما لا يعلمونه وهو تزكية لأنفسهم بلا علم. قال شيخ الإسلام: وأما الموافاة فما علمت أحدا من السلف علل بها الاستثناء. نعم، كثير من المتأخرين يعلل بها من أصحاب الحديث من أصحاب الإمام أحمد والشافعي ومالك وغيرهم - رضي الله عنهم -.
قال شيخ الإسلام: وأكثر الناس يقولون بل هو إذا كان كافرا فهو عدو الله ثم إذا آمن واتقى صار وليا لله. فمأخذ سلف الأئمة في الاستثناء أن الإيمان المطلق فعل جميع المأمورات، وترك جميع المحظورات، فإذا قال الرجل: أنا مؤمن بهذا الاعتبار، فقد شهد لنفسه بأنه من الأبرار المتقين القائمين بفعل جميع ما أمروا به وترك كل ما نهوا عنه فيكون من أولياء الله - تعالى، وهذا تزكية الإنسان لنفسه وشهادته لها بما لا يعلم ولو كانت هذه الشهادة صحيحة لساغ أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال ولا أحد يسوغ له بذلك فهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون، وإن جوزوا ترك الاستثناء،
قال الخلال في كتاب السنة: ثنا سليمان بن الأشعث - يعني الإمام الحافظ أبا داود صاحب السنن - قال: سمعت أبا عبد الله - يعني الإمام أحمد رضي الله عنه - قال له رجل: قيل لي أمؤمن أنت ؟ قلت: نعم، هل علي في ذلك شيء ؟ هل الناس إلا مؤمن، أو كافر ؟ فغضب الإمام أحمد وقال: هذا كلام الإرجاء قال الله - تعالى -: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللّهِ} [التوبة: 106] من هؤلاء ؟ ثم قال الإمام أحمد: أليس الإيمان قولا وعملا ؟ قال له الرجل: بلى، قال: فجئنا بالقول ؟ قال: نعم، قال: فجئنا بالعمل ؟ قال: لا، فكيف تعيب أن يقول إن شاء الله ويستثني ؟ قال أبو داود: أخبرني أحمد بن شريح أن الإمام أحمد - رضي الله عنه - كتب إليه في هذه المسألة أن الإيمان قول وعمل فجئنا بالقول ولم نجئ بالعمل، ونحن نستثني في العمل. وكان سليمان بن حرب يحمل هذا على التقبل يقول: نحن نعمل ولا ندري يقبل منا أم لا؟. قال شيخ الإسلام: والقبول متعلق بفعله كما أمر، فمن فعل كما أمر فقد تقبل منه، لكن هو لا يجزم بالقبول لعدم جزمه بكمال الفعل كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60] قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله هو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف؟ قال: ((لا يا بنت الصديق بل هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق، ويخاف ألا يتقبل منه)) "وقال الإمام أحمد: أذهب إلى حديث ابن مسعود في الاستثناء في الإيمان ; لأن الإيمان قول وعمل، والعمل الفعل فقد جئنا بالقول، ونخشى أن نكون فرطنا في العمل فيعجبني أن يستثني في الإيمان يقول أنا مؤمن إن شاء الله. وقال في رواية الميموني: أقول مؤمن إن شاء الله ومؤمن أرجو ; لأنه لا يدري كيف البراءة للأعمال على ما افترض عليه أم لا. ومثل هذا كثير في كلام الإمام أحمد - رضي الله عنه - وفي كلام أمثاله من أئمة السلف، وهذا مطابق لما تقدم من أن المؤمن المطلق هو القائم بالواجبات المستحق للجنة إذا مات على ذلك، وأن المفرط بترك الأمور، أو فعل المحظور لا يطلق عليه أنه مؤمن مطلقا، وأن المؤمن المطلق هو البر التقي ولي الله، فإذا قال: أنا مؤمن قطعا، كان كقوله: أنا بر تقي ولي الله قطعا، وقد كان الإمام أحمد وغيره من السلف مع هذا يكرهون سؤال الرجل لغيره أمؤمن إن شاء الله ويكرهون الجواب ; لأن هذه بدعة أحدثتها المرجئة، ولهذا كان الصحيح أنه يجوز أن يقول: أنا مؤمن بلا استثناء إذا أراد ذلك، لكن ينبغي أن يقرن كلامه بما يبين أنه لم يرد الإيمان المطلق الكامل ; ولهذا كان الإمام أحمد - رضي الله عنه - يكره أن يجيب على المطلق بلا استثناء تقدمه. وقال المروزي: قيل لأبي عبد الله نقول: نحن المؤمنون ؟ قال: نحن المسلمون.
ومع هذا فلم يكن ينكر على من ترك الاستثناء إذا لم يكن قصده فعل المرجئة أن الإيمان مجرد القول بل يتركه، لما يعلم أن في قلبه إيمانا، وإن كان لا يجزم بكل إيمانه.وقال الخلال: أخبرني أحمد بن أصرم المزني أن أبا عبد الله قيل له إذا سألني الرجل فقال: أمؤمن أنت ؟ قال: قل له سؤالك إياي بدعة، ولا شك في إيماني، أو قال: لا نشك في إيماننا. قال المزني: وحفظي أن أبا عبد الله قال أقول كما قال طاوس: آمنت بالله وملائكته ورسله. فقد أخبر الإمام أحمد أنه قال: لا نشك في إيماننا ، وإن السائل لا يشك في إيمان المسئول وهذا أبلغ، وهو إنما يجزم بأنه مقر مصدق بما جاء به الرسول لا أنه قائم بالواجب، فعلم أن الإمام أحمد وغيره من السلف كانوا يجزمون ولا يشكون في وجود ما في القلوب من الإيمان في هذه الحال، ويجعلون الاستثناء عائدا إلى الإيمان المطلق المتضمن فعل المأمور، ويحتجون أيضا بجواز الاستثناء في ما لا شك فيه، وهذا مأخذ ثان، وإن كنا لا نشك في ما في قلوبنا من الإيمان، فالاستثناء في ما يعلم وجوده مما قد جاءت به السنة لما فيه من الحكمة قال - تعالى -: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله} [الفتح: 27]. وقال صلى الله عليه وسلم... لما وقف على المقابر: ((وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)). وقوله: ((إني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي وهي نائلة إن شاء الله من مات منهم لا يشرك بالله شيئا)). وهذا كثير، وفي الصحيحين: أن سليمان بن داود عليهما السلام قال: لأطوفن الليلة على مائة امرأة، كل منهن تأتي بفارس يقاتل في سبيل الله. فقال له صاحبه: قل إن شاء الله، فلم يقل، فلم يحمل منهن إلا امرأة جاءت بشق رجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون)) ، فإذا قال: إن شاء الله؛ لم يشك في طلبه وإرادته بل لتحقيق الله ذلك له إذ الأمور لا تحصل إلا بمشيئة الله، فإذا تألى العبد على الله من غير تعليق بمشيئته لم يحصل مراده، فإنما من يتألى على الله يكذبه، ولهذا يروى: لا أتممت لمقدر أمرا وقيل لبعضهم بما عرفت ربك ؟ قال: بفسخ العزائم ونقض الهمم. وقد قال - تعالى -: {ولا تقولن لشيء إني فاعل }وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ{ [الكهف: 23].}
وفي (شرح مختصر التحرير): يجوز الاستثناء في الإيمان بأن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله نص على ذلك الإمام أحمد، والإمام الشافعي، وحكي عن ابن مسعود - رضي الله عنهم -،
وقال ابن عقيل: يستحب ولا يقطع لنفسه، ومنع ذلك الإمام أبو حنيفة وأصحابه والأكثرون، والله أعلم.
لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لمحمد بن أحمد السفاريني – 1/432
مسألة الاستثناء في الإيمان، وهو أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فمرجئة الفقهاء من الأحناف يقولون: لا يجوز لك أن تستثني، حرام أن تقول أنا مؤمن إن شاء الله، لأنك تشك في إيمانك، تعرف نفسك أنك مصدق، فكيف تشك ؟ فإذا قالوا: إن من قال: أنا مؤمن إن شاء الله فهو شاك في إيمانه، لأن الإيمان هو التصديق أن تعرف نفسك أنك مصدق كما تعرف نفسك، أنك تحب الرسول، وأنك تبغض اليهود، هل تشك في إيمانك؟ هل تشك في الشيء الموجود ؟.
قالوا: لا يجوز للإنسان أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ومن قال أنا مؤمن إن شاء الله، فهو شاك في إيمانه، ويسمون أهل السنة الشكاكة، أما أهل السنة والجماعة، هم قالوا: المسألة فيها تفصيل، يجوز الاستثناء في الإيمان في بعض الأحوال، ولا يجوز في بعض الأحوال، فإذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله، وقصده الشك في أصل إيمانه، وهو التصديق فهذا ممنوع.
أما إذا قال: إن شاء الله، وقصده الاستثناء راجع إلي الأعمال أعمال الإيمان، الواجبات كثيرة، والمحرمات كثيرة، فلا يجزم الإنسان بأنه أدى ما أوجب الله عليه، ولا يجزم الإنسان بأنه ترك كل ما حرم الله عليه، ولا يزكي نفسه، فهو يقول: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأن الأعمال متشعبة كثيرة، لا يجزم بأنه أدى كل ما عليه، بل هو محل للتقصير والنقص، ولا يجزم بأنه ترك كل ما حرم الله عليه، بل قد يقترف شيئا من ذلك، فهو يقول: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأنه لا يزكي نفسه؛ ولأن أعمال الإيمان متشعبة، فلا بأس أن يقول: إن شاء الله، كذلك إذا قال أنا مؤمن إن شاء الله، وقصده تعليق الأمر بمشيئة الله للتبرك باسم الله، فلا حرج، وكذلك إذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله، وأراد عدم علمه بالعاقبة، فلا بأس أما إذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله، وقصده الشك في أصل إيمانه، فهذا لا يجوز. وبهذا يتبين أن الخلاف بين الأحناف والجمهور له ثمرة،
شرح الطحاوية لعبدالعزيز الراجحي – 1/246
الاستثناء عند السلف راجع إلى أحد خمسة أمور:الأول: أن الإيمان المطلق يتضمن فعل المأمورات وترك المحرمات جميعها، وليس أحد يدعي أنه أتى بذلك، فجاز أن يستثني على هذا الاعتبار (وهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون) .الثاني: النظر إلى قبول الأعمال، فإن الإنسان يعمل ولا يدري أيتقبل منه أم لا، لخوفه أن لا يكون أتى بالعمل على الوجه المأمور .الثالث: ترك تزكية النفس، وأي تزكية أعظم من التزكية بالإيمان .الرابع: أن الاستثناء يكون في الأمور المتيقنة التي لا يشك فيها، كما سبق في آية الفتح، وفي قصة صاحب القبر .الخامس: الاستثناء لعدم العلم بالعاقبة، وخوف تغير الحال، في مستقبل العمر، وفي ذلك يقول ابن بطة: (ويصح الاستثناء أيضا من وجه آخر يقع على مستقبل الأعمال، ومُستأنَف الأعمال، وعلى الخاتمة وبقية الأعمار، ويُريد: إني مؤمن إن ختم الله لي بأعمال المؤمنين وإن كنت عند الله مثبتا في ديوان أهل الإيمان، وإن كان ما أنا عليه من أفعال المؤمنين أمرا يدوم لي ويبقى علي حتى ألقى الله به، ولا أدري هل أصبح وأُمسي على الإيمان أم لا؟ وبذلك أدَّب الله نبيه والمؤمنين من عباده، قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ} [الكهف: 24] .
والحاصل أن أهل السنة على جواز الاستثناء لهذه الاعتبارات، وجواز تركه إذا كان المقصود أصل الإيمان، لا الإيمان المطلق الكامل، وأما على الشك، فيمنع منه اتفاقا. وينبغي لمن لم يستثنِ أن يقرن كلامه بما يبيِّن أنه لا يريد الإيمان المطلق الكامل، كأن يقول: آمنت بالله وملائكته ورسله، ونحو ذلك.قال شيخ الإسلام: (ولهذا كان الصحيح أنه يجوز أن يقال: أنا مؤمن بلا استثناء إذا أراد ذلك، لكن ينبغي أن يقرن كلامه بما يبين أنه لم يرد الإيمان المطلق الكامل) .وقال ابن أبي العز ملخصاً أوجه الاستثناء: (وأما من يجوِّز الاستثناءَ وتركَه، فهم أسعد بالدليل من الفريقين ، وخير الأمور أوسطها، فإن أراد المستثني الشك في أصل إيمانه مُنع من الاستثناء، وهذا مما لا خلاف فيه، وإن أراد أنه مؤمن من المؤمنين الذين وصفهم الله في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2-4]، وفي قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15] فالاستثناء حينئذٍ جائز. وكذلك من استثنى وأراد عدم علمه بالعاقبة. وكذلك من استثنى تعليقاً للأمر بمشيئة الله، لا شكا في إيمانه، وهذا القول في القوة كما ترى) .
كراهة السلف سؤال الرجل أخاه: أمؤمن أنت؟
وقد كره السلف سؤال الرجل أخاه: أمؤمن أنت؟ بل عدوا هذا من البدع التي أحدثها المرجئة.قال إبراهيم النخعي: (سؤالُ الرجلِ الرجلَ: أمؤمنٌ أنت؟ بدعةٌ) .وقال سفيان بن عيينة: إذا سئل أمؤمن أنت؟ إن شاء لم يجبه، أو يقول: سؤالك إياي بدعة، ولا أشك في إيماني .قال الآجري: (إذا قال لك الرجل: أنت مؤمن؟ فقل: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والموت والبعث من بعد الموت والجنة والنار، وإن أحببت ألا تجيبه، تقول له: سؤالك إياي بدعة فلا أجيبك، وإن أجبته فقلت: أنا مؤمن إن شاء الله على النعت الذي ذكرناه فلا بأس به. واحذر مناظرة مثل هذا، فإن هذا عند العلماء مذموم، واتبع من مضى من أئمة المسلمين تسلم إن شاء الله) .
والمرجئة أوردت هذا السؤال احتجاجا منها على أن الإيمان قول وتصديق بلا عمل. ووجه ذلك أن المجيب إذا قال: أنا مؤمن، قيل له: فهل جئت بالعمل؟ وكيف ساغ لك الجزم بالإيمان وأنت لا تجزم بالعمل؟ فهذا تسليم منك بأن الإيمان قول بلا عمل!فلما علم السلف مقصودهم، كرهوا السؤال، وكرهوا جوابه .قال شيخ الإسلام: (وقد كان أحمد وغيره من السلف مع هذا يكرهون سؤال الرجل لغيره: أمؤمن أنت؟ ويكرهون الجواب؛ لأن هذه بدعة أحدثها المرجئة ليحتجوا بها لقولهم، فإن الرجل يعلم من نفسه أنه ليس بكافر، بل يجد قلبه مصدقا بما جاء به الرسول، فيقول: أنا مؤمن، فيثبت أن الإيمان هو التصديق؛ لأنك تجزم بأنك مؤمن، ولا تجزم بأنك فعلت كل ما أمرت به، فلما علم السلف مقصدهم صاروا يكرهون الجواب، أو يفصلون في الجواب، وهذا لأن لفظ الإيمان فيه إطلاق وتقييد، فكانوا يجيبون بالإيمان المقيد الذي لا يستلزم أنه شاهد فيه لنفسه بالكمال، ولهذا كان الصحيح أنه يجوز أن يقال: أنا مؤمن بلا استثناء إذا أراد ذلك، لكن ينبغي أن يقرن كلامه بما يبين أنه لم يرد الإيمان المطلق الكامل، ولهذا كان أحمد يكره أن يجيب على المطلق بلا استثناء يقدمه. وقال المروزي: قيل لأبي عبد الله نقول: نحن المؤمنون؟ فقال نقول: نحن المسلمون. وقال أيضا: قلت لأبي عبد الله: نقول إنا مؤمنون؟ قال: ولكن نقول: إنا مسلمون. ومع هذا فلم ينكر على من ترك الاستثناء إذا لم يكن قصدُه قصدَ المرجئة أن الإيمان مجرد القول، بل يكره تركَه لما يعلم أن في قلبه إيمانا وإن كان لا يجزم بكمال إيمانه. قال الخلال: أخبرني أحمد بن أصرم المزني أن أبا عبد الله قيل له: إذا سألني الرجل فقال: أمؤمن أنت؟ قال سؤالك إياي بدعة لا يشك في إيمانه، أو قال: لا نشك في إيماننا. قال المزني: وحفظي أن أبا عبد الله قال: أقول كما قال طاووس: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله... فعُلم أن أحمد وغيره من السلف كانوا يجزمون ولا يشكون في وجود ما في القلب من الإيمان في هذه الحال، ويجعلون الاستثناء عائدا إلى الإيمان المطلق المتضمن فعل المأمور) .
الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير - 1/96